الدولة والكيان وبينهما الحرب الأهلية

بينما ينحدر الصراع السياسي في العديد من الأقطار العربية التي تفجرت ميادينها بالغضب الشعبي العارم، احتجاجاً على تخلف أنظمتها الحاكمة بالقمع الدموي، نحو هاوية الحرب الأهلية مهدداً الوحدة الوطنية، وبالتالي «الدولة» فيها، تبرز مصر كدولة عريقة يشكّل القضاء فيها مرجعية حقيقية لا يجادل أحد في شرعية قراره النهائي، كائناً ما كان موقعه أو موقفه السياسي.
تكشف هذه الحقيقة، في جملة ما تكشف، أن كثيراً من «الدول» العربية قد استولد بقرار دولي صدر خدمة لمصالح أجنبية، ولم يكن للشعب في أي منها القدرة على الاعتراض، وأن أنظمتها الحاكمة كانت بطبيعتها استبدادية، آخذاً بالاعتبار أن ما بُني على الغلط لا يمكن أن ينجب الصح.

ثمة فارق كبير بين التسليم بالكيانات السياسية كأمر واقع، لا مجال لرده، وبين «الدول» ذات الأساس التاريخي ـ الجغرافي المكين… فالأولى تظل عرضة للاهتزاز والتشقق، كلما تباينت مصالح مرجعياتها أو زعاماتها السياسية، التي غالباً ما تستند في «شرعيتها» إلى كتل شعبية يسهل الضرب على مشاعرها أو غرائزها، دينية أو طائفية، التي تتحول إلى استثمار مجزٍ للقوى الخارجية التي تبدت في حالات كثيرة في دور «الحامي» أو الضامن لهذا الكيان السياسي العربي أو ذاك (لبنان مثالاً)..
هل نسينا أن معظم هذه الكيانات، وفي المشرق العربي تحديداً، قد رسمها محتلان أجنبيان وفق مصالحهما، وبما يمهّد لإقامة الكيان الإسرائيلي، في وقت لاحق… وأن المحتل الأجنبي وجد في اختلاف الأديان والطوائف والعناصر مادة دسمة تخدم استثماره في هذه «الكيانات» المستولدة قيصرياً.

… وبالتأكيد فإن زرع كيان سياسي قاعدته «دينية»، في المشرق المقسّم كيانات لكل طائفة فيها «هويتها» الخاصة «المحمية»، قد أسهم في إبقاء أهلها «رعايا» لا مواطنين… فكيف يكون مواطن حيث لا دولة؟!
وفي كيانات ليست دولاً إلا بالقرار السياسي الأجنبي الذي فرضها أمراً واقعاً لا مجال لتغييره، يصعب تحديد موقع الدستور كمرجعية عليا، بل وأخيرة، للحسم في ما هو حق وعدل وما هو باطل ومدسوس أو صادر عن الفرض.
ربما لهذا يختلف الصراع حول هوية النظام الجديد في «الدول» التي نجحت الانتفاضات في إسقاط أنظمتها الدكتاتورية عنه في مصر اختلافاً كذلك الذي بين «الدولة» الثابتة بل الراسخة بقيمها الدستورية وقضائها الذي ظل عصياً على التدجين، واستمر يقضي بما عليه أن يقضي به متى تمّ الرجوع إليه كمصدر أخير للفصل بين ما هو شرعي، أي دستوري، وما هو مناقض للدستور، وبين «الدول» بين ما هو شرعي، أي دستوري، وما هو مناقض للدستور، وبين «الدول» التي بنيت على الرمل لأغراض تتجاوز طموحات قبائل أهلها وطوائفهم.

هذا لا يعني أن القضاء ستكون له الكلمة الأخيرة في الانتخابات الرئاسية في مصر، لكنه سيكون مرجعاً للبت في «شرعية» المرشحين، وفقاً للقوانين المعمول بها… وهكذا استبعد بعض المرشحين الإسلاميين، بينهم قيادي إخواني وآخر سلفي، ورئيس المخابرات الحربية الذي اختاره الرئيس المخلوع نائباً له، تحت ضغط الثورة، وفي الدقائق الأخيرة قبل انتصار «الميدان» وإجباره حسني مبارك على «التنحي».
الأخطر أن الحوار حول الانتخابات الرئاسية ومرشحيها، في مصر، قد اتخذ السياق الدستوري ـ القانوني، وبمعزل عن الانتماءات السياسية لهؤلاء المرشحين، ما أعاد الاعتبار إلى القضاء عبر المحكمة الدستورية العليا كمرجعية منزهة عن الغرض…

وبهذا أكد التسليم بهذه المرجعية رسوخ «الدولة» في مصر… في حين أن بعض الانتفاضات العربية قد أضاعت الطريق إلى النصر، حين تدخلت «الدول» لابتداع «التسويات» فتم افتداء النظام برأسه ليحل «الورثة» من «الإخوة الأعداء» مكان الرئيس المخلوع، موقتاً (كما حصل في اليمن)، أو أسقط في يد «الشعب» الذي عجز عن حماية «الدولة» بعد إسقاط نظام الطغيان فتشققت وحدته الوطنية ولاحت في الأفق مخاطر الحرب الأهلية (كما حصل في ليبيا)..
… وها هو الخطر يتهدد سوريا في وحدتها الوطنية، حيث تبدى «النظام» أقوى من «الدولة»، وصار سقوط النظام بوابة جهنم الحرب الأهلية.

لقد وفرت الانتفاضات العربية دروساً مهمة بل وأساسية أخطرها أن «الدولة» ما تزال هدفاً بعيد المنال… ونظرة واحدة إلى المؤتمرين اللذين انعقدا في الدوحة، أمس، سواء في إطار دول مجلس التعاون الخليجي أم في إطار جامعة الدول العربية، تدل إلى أن العرب بمجموعهم ما زالوا بعيدين عن طموحهم لأن تكون كياناتهم دولاً…
ومن دولته خيمة وبئر نفط أو غاز ليس هو المؤهّل كي يبني دول «أشقائه» حتى لو كان قادراً على تهديم القائم منها في غياهب الحرب الأهلية.

السابق
اللجنة العربية تدعم بحذر مهمة أنان.. وموسكو تطمئن دمشق
التالي
زاسبكين: نعمل لتنفذ البنود كما هي