الثورة المصرية ليست بلهاء

المرشحان الأكثر خطورة على الإطلاق بين الأسماء المعترَض "قانونياً" على ترشيحها للانتخابات الرئاسية، أحدُهما لا يجوز بعد الثورة قبولُ ترشيحِهِ والثاني لا يجوز بعد الثورة منعُه من الترشُّح: الأول عمر سليمان، الثاني خيرت الشاطر.

بين الأسماء العشرة التي طالها قرار اللجنة الإنتخابية بالاستبعاد من الترشيح للانتخابات الرئاسية المصرية إسمان ترتسم حولهما المساحة الجادة للصراع السياسي في مصر هما عمر سليمان وخيرت الشاطر. مصير الإسمين الأوّلين يحتفظ بدلالة جوهرية في كشف ومن ثم تحديد "شخصية" الحياة السياسية المصرية الجديدة.
لنبدأ مع عمر سليمان:
لا يمكن أن يجتمع معنيان متناقضان متعاكسان متضاربان في حدثٍ واحدٍ مثلما يجتمعان في حدثِ ترشيحِ الجنرال عمر سليمان رئيسِ المخابرات في عهد الرئيس حسني مبارك ونائبِه في أيامه الأخيرة… لانتخابات الرئاسة المصرية.
فالمعنى الأول لهذا الترشيح ايجابي جدا من حيث دلالته التي لا تحتمل الالتباس في تأكيد سلمية الثقافة السياسية للنخب المصرية وتكوينها العميق غير العنفي. فمجرد أن يكون الجنرال سليمان قد أقدم على اتخاذ قرار ترشيح نفسه ووجود آليات قانونية سمحت فعلاً بتسجيل هذا الترشيح بعد ثورةٍ او انتفاضةٍ او حِراكٍ شعبيٍّ ضد النظام الذي كان رمزَه الثاني سياسيا ورمزَه الاول أمنياً هما بحد ذاتيهما دلالة على المناخ السلميِّ، المتأصِّلِ المرجعيةِ القانونيةِ، الذي تعيشه النخبُ المصرية.
أما المعنى الثاني لهذا الترشيح فهو متناقض تماما مع المعنى الأول الى حد استحالة أي شكل من أشكال تعايشهما لأن "قبول" الوضع السياسي المصري بهذا الترشيح سيعني التسخيف الكامل لمعنى الثورة التي حصلت… ليس أقل من ذلك وبمعزل عن نتائج الانتخابات نفسها.

تصوّروا هذه المفارقة. حدثٌ واحدٌ، هو ترشيح الجنرال، له في الوقت عينه معنيان متناقضان كلياً:
سلمية الثورة العميقة عبر مرجعية القانون، وإلغاؤها لنفسها كفعلٍ تغييري عبر قبولها باستمرار هذا الترشيح، اي استغباؤها لنفسها.
لهذا لا شك أن القوى الأساسية للثورة في الشارع، من المُحَرِّكين الشباب لها في ميدان التحرير الى التيار الاسلامي وخصوصا "الإخوان المسلمين" وغيرهم من الليبراليين واليساريين، هم على حق في السعي بأي شكل من الأشكال الى الإبطال السياسي ثم القانوني لترشيح عمر سليمان… وهناك القانون الذي أقرّه مجلس الشعب والذي ينتظر بتّه أمام المجلس العسكري أو قيام المجلس العسكري بإحالته على المحكمة الدستورية.

لا يمكن إلا الوقوف مع إبطال هذا الترشيح. فنوع التسامح الذي دَفع أنصارُ العهدِ السابقِ الثورةَ إليه هو فوق طاقتها "الوجودية" على احتماله. وليس صحيحا ما ذهب إليه مراسل "النيويورك تايمز" أن استبعاد عمر سليمان يضرب مصداقية العملية الانتخابية حتى لو كان له، بطبيعة الحال، مؤيدون بعضهم محبَطون من الفوضى الراهنة. فالديموقراطية التي أطلَقَتْها الثورة أوْصَلَتْها الى كل المصريين ما عدا رموز النظام، وعلى رأسهم خارج السجن عمر سليمان، النظام الذي كان يمنعها عن الأغلبية الساحقة من المصريين.
وليس من ثورة يمكن أن تقبل باستغفالها الى هذا الحد. فالتهكُّم الذي سرى في مصر في الأيام الأخيرة هو: "… وماذا لو ترشّح مبارك!؟".
إذن عمر سليمان حالة قائمة بذاتها حتى لو وضعته الآلية القضائية للانتخابات مع ألف اسم آخر وليس تسعة فقط.
نصل الى خيرت الشاطر… وأيضاً أيمن نور:
مع أني أؤيد الرأي الواسع القائل بعد انطلاق "الربيع العربي" بضرورة البدء بمواجهة فكرية سياسية لتيارات الاسلام السياسي المتشددة تحت عنوان فصل الدين عن الدولة ليس فقط في مصر بل في العالم العربي إلا ان أي تقييم موضوعي لدور "الإخوان المسلمين" في التغيير المصري تحديدا يفترض النظر الى ترشيح خيرت الشاطر بشكل موضوعي سياسياً ومُنصِفٍ شخصياً.

خيرت الشاطر مناضل عقائدي من حزب رئيسي في دعم الثورة السلمية دخل السجون الصعبة طويلا وعرّض مصالحه للخطر الأكيد… شخص كهذا في ثورة كان شريكا فيها عبر حزبه وبشخصه ونجحت في تغيير رأس النظام السابق كيف لا يكون في مقدمة المرشحين! أمثال خيرت الشاطر، تتفق أو تختلف معه، هم "عادةً" بعد تغييرات كالتي حصلت في مصر، في مقدمة المرشّحين لمناصب أساسية مثل الرئيس المنصف المرزوقي غير الديني وحامد الجبالي رئيس الوزراء الديني في تونس… ومثل الحالات المتعددة أيديولوجيا التي شهدتها بلدان الثورات الناجحة، لماذا يكون خيرت الشاطر – وهو من هذه الفئة كمناضل وسجين سابق – محروماً من الاعتراف له بحق الترشيح خصوصاً أنه صاحب حظ وافر جدا بالنجاح؟
أما أيمن نور المرشح الليبرالي ورئيس "حزب الغد" فمن المعروف أنه كان في السنوات الأخيرة أحدَ الرموز البارزة كسجين سياسي على لائحة الناشطين الأكثر تعرضاً لإضطهاد الرئيس مبارك واجهزته الأمنية. صحيح أن أهميته السياسية وبالتالي الانتخابية هي أقل من تلك التي للشاطر إلا أنه يحظى بـ"شرعية ثورية" ثابتة.

إذا كان أمثال خيرت الشاطر وأيمن نور لا يحق لهم الترشح للانتخابات الرئاسية المصرية بعد ثورة سلمية (رغم سقوط ضحايا)… من الذي يحق له؟!
طبعا لا يمكن تجاهل اسم مُستَبعد رابع هو حازم أبو اسماعيل المرشح السلفي المتشدد لكن "أبو اسماعيل" على أهميته الانتخابية المتوقعة نسبياً لا يحمل الدلالتين الرمزية والسياسية التي لخيرت الشاطر و"الإخوان المسلمين". ناهيك عن أن المأخذ القانوني المرفوع في وجهه جدي جدا من حيث أنه غير مفتعل، وهو الجنسية الأميركية المكتَسبة لوالدته.

مثل عديدين لديّ ما يجعلني أتمنى عدم فوز خيرت الشاطر في المعركة الانتخابية لا فقط بسبب دينيته الاصولية في ادارة الدولة بل أيضا بسبب كونه من نوع أصحاب الرساميل التي تجعله ربما كرئيس أكثر ارتباطاً بالمصالح المالية الكبرى في بلد يحتاج الى أولوية اقتصاد ذي بعد اجتماعي كثيف في ظل بلوغ عدد من هم تحت خط الفقر عشرين بالماية من السكان وعدد من هم عند خط الفقر، أي فقراء، أربعين بالماية حسب إحصاءات جادة جدا. لكن هذا الموقف شيء وحق الشاطر بالترشيح شيء آخر. مع العلم أن المسألة الأساسية في هذه الحالة تصبح مناقشة برنامج "حركة الإخوان المسلمين" الذي يحمله خيرت الشاطر على الصعيد الاقتصادي لا وضعيته الشخصية.
إسمان من العهد السابق هما الأكثر أهمية في المناورات الكبرى الدائرة حول سباق الانتخابات الرئاسية:

الأول هو السجّان عمر سليمان والثاني هو السجين خيرت الشاطر.
لكن أهمية مصر أن كل ذلك يجري سلميا وليس لدى أي قوة سياسية مشروع غير سلمي.

السابق
طليعة المراقبين تبدأ مهمتها في سوريا.. تنفيذاً للقرار الرقم 2042
التالي
300 عداء فـي ماراتـون صـور