أنقرة وطهران: نهاية غير سعيدة

مياه كثيرة مرت تحت جسر العلاقات التركية الإيرانية منذ انفجار الأزمة السورية. والقطبان الكبيران في المنطقة اللذان كانا يراهنان على علاقات وثيقة يمكن بناؤها بين نظام الجمهورية الإسلامية وأول حزب إسلامي يصل إلى الحكم في أنقره منذ تأسيس الجمهورية التركية، فشلا في الحفاظ على التحسن الذي طرأ على هذه العلاقات بعد الزلزال الذي أحدثته الانتفاضة السورية في تحالفات دول المنطقة، وما نتج منه من انعكاسات على العلاقات المتأزمة أصلاً بين مختلف الانتماءات المذهبية في مجتمعات هذه الدول.

استطاعت علاقات أنقرة وطهران أن تبحر بهدوء وسط العاصفة التي خلّفها الغزو الأميركي للعراق. ولم يقف الانتماء الأطلسي للدولة التركية حائلاً دون أن يقول رجب طيب أردوغان لا للقوات الأميركية التي كانت ترغب في عبور أراضيه إلى البلد المحتل. وفوق ذلك، زاد في التقدير الذي حظي به رئيس الحكومة التركي في نظر «الممانعين» مواقفه من الممارسات العدوانية الإسرائيلية، سواء خلال الحرب على لبنان عام 2006 أو في موقفه من الحرب على قطاع غزة في آخر عام 2008. كانت أنقرة في ذلك الوقت هي العاصمة التي يشار إليها كعنوان للقوة والعنفوان في وجه الولايات المتحدة، فهي الدولة الأطلسية القادرة في الوقت ذاته على أن تتحدى المصالح الأميركية وأن تتعامل مع أوروبا والغرب عموماً تعامل الند للند. فضلاً عن كونها الدولة القادرة على التصدي للغطرسة الإسرائيلية، كما أظهرت المواجهة بين البلدين في شأن «أسطول الحرية».

غير أن كل ذلك كان قبل الانقلاب الذي حدث في تحالفات الكتل في المنطقة، والذي دفع تركيا إلى جانب وإيران إلى الجانب الآخر. ولم يعد صعباً تبيّن الهوية المذهبية لهذه التحالفات الجديدة، ولا متابعة الخطوات الحادة في التعبير عن التناقضات والخلافات، كما تظهر التهديدات الإيرانية لمنطقة الخليج، وآخر مظاهر التحدي كانت الزيارة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى المتنازع عليها مع الإمارات، وهي الأولى لرئيس إيراني، وكما يؤكد الرد التصعيدي من قبل دول الخليج على التدخلات الإيرانية في شؤونها وعلى ممارسات العنف التي يرتكبها النظام السوري.

لقد كانت الأزمة السورية محكاً حقيقياً لمدى اتساع هوة التناقض بين النظام التركي، الإسلامي طبعاً، ولكنه نظام حاكم بقوة صناديق الاقتراع والاحتكام إلى الشعب، وبين أنظمة وتيارات «الممانعة»، والتي يديرها النظام الإيراني، والحاكمة بقوة الشعارات والاستخفاف بالحقوق والمطالب الوطنية. هذا التناقض هو الذي أخذ يدفع أنقرة شيئاً فشيئاً إلى الدفاع عن المبادئ الديموقراطية لنظامها في وجه الغلوّ الذي أظهرته السلطات السورية في قمعها لمطالب المحتجين من مواطنيها. وهو ما عبر عنه المسؤولون الأتراك في اكثر من مناسبة بالقول انهم لا يستطيعون الدفاع عن نظام يفعل ما يفعله نظام دمشق بحق مواطنيه. لقد أوصل هذا التناقض المبدئي الموقف التركي إلى حد القطيعة الكاملة مع النظام السوري، على رغم العلاقات الوثيقة السابقة، حتى وصل الأمر بأنقرة إلى التلويح بالمطالبة بحماية الحلف الأطلسي لحدودها، في وجه الاختراقات السورية الأخيرة، وعلى رغم ما بين علاقات تركيا والأطلسي من سلبيات سابقة.

في ظل هذا المناخ، تعقد اليوم في إسطنبول المحادثات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، وهي التي كانت طهران قد دعت إلى نقلها إلى عاصمة أخرى (ذكرت بغداد مثالاً) في رد صريح على مواقف أنقرة. وهو ما رد عليه أردوغان متهماً طهران بالمراوغة ونقص الأمانة، ليضيف: «هذه ليست ديبلوماسية … إن لها اسماً آخر لا احب أن اذكره هنا!»

وليس صعباً، في مناخ كهذا، توقع الفشل لهذه المحادثات، ليس فقط بسبب المكان الذي تم اختياره لاستضافتها، بل فوق ذلك لأن إيران، وعلى رغم الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها، لا تملك التنازل في ملف صار ورقة مهمة في التفاوض مع الغرب على دورها ونفوذها في المنطقة.  

السابق
هل يصلح النموذج التركي للبنان?
التالي
نحتاج إلى وقفة التقاط أنفاس لتعويض ما فاتنا