دولة فلسطينية! أين ومتى وكيف؟

قد يكون من الممكن، حتى الآن، تخيل إمكانية إيجاد تسوية سياسية عادلة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. غير أن السياسة، في العالم الواقعي، ليست من صنع الخيال، بل تتعلق بالقوة، وبالأشخاص الذين يمتلكونها، وبالكيفية التي يستعملونها بها. فالسياسة، في نهاية المطاف، لا تتعلق بما نتمناه أو ما نعتقد أنه أمر عادل؛ بل ترتبط بما يمكن أن نحصل عليه بواسطة القوة التي نمتلكها، وبالقوة التي نحن مستعدون وقادرون على استعمالها. إنه من المحزن أن العديد ممن يملكون القوة، يفعلون ما في وسعهم من أجل عرقلة إيجاد تسوية عادلة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وحتى الآن، يمكن القول إن جهودهم قد كللت بالنجاح، حيث أدت إلى خلق وضع مشوه ومحرف إلى حد كبير في إسرائيل وواشنطن، والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ففي إسرائيل، كانت للمتشددين الكلمة العليا. ذلك أن عقوداً من الاستيطان غير القانوني وبناء الطرق «الخاصة باليهود فقط»، وبناء جدار/ سياج قمعي، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل الفلسطينية، والحرية المطلقة التي أعطيت لمجموعة متشددة تسمح لها بالاستيلاء على الأراضي لبناء «مستوطنات عشوائية» وتوسيعها في عمق الداخل الفلسطيني… كلها عوامل تضافرت لتشوه خريطة الضفة الغربية وتحرفها.

وفي هذا الشهر أيضاً تجاهلت إسرائيل حتى نظامها القانوني، حيث رفضت إغلاق «مستوطنة عشوائية» غير قانونية كانت قد بنيت على أرض مملوكة للفلسطينيين. وحتى عندما قامت بإخلاء منزل في مدينة الخليل كان مستوطنون متطرفون قد استولوا عليه في عمل استفزازي، سعى رئيس الوزراء إلى تحصين نفسه من الانتقادات عبر إعلانه اعتزامه الشروع في بناء المئات من الوحدات السكنية الجديدة بين بيت لحم والقدس. ويضاف إلى ذلك التقرير الذي نشرته مؤخراً صحيفة «هآرتس» وكشف أن «الإدارة المدنية» الإسرائيلية «تعمل سراً على تخصيص» عشرة في المئة من أراضي الضفة الغربية لتوسيع المستوطنات، في وقت أصبح فيه من الصعب على نحو متزايد مجرد تخيل كيف وأين يمكن للمرء أن يؤسس دولة فلسطينية.
والواقع أن الحكومة الإسرائيلية المتشددة الحالية ليست المذنب الوحيد في هذا التغول، على اعتبار أن كل هذه السياسات قائمة منذ 45 عاماً؛ وليس ثمة أمل في حدوث تغيير قريباً، حيث تظهر استطلاعات الرأي أن الناخبين الإسرائيليين سيختارون، في أي انتخابات مقبلة، حكومة تتبع سياسات مماثلة، إن لم تكن أسوأ بكثير.

ولئن كان العرب تخيلوا أنه بالإمكان وقف هذا الوضع «إذا ما تحركت أميركا أو المجتمع الدولي لكبح جماح إسرائيل»، فإن الواقع يشير إلى أمر مختلف. وعلى سبيل المثال، فقد شاع أمل في التزام أوباما المبكر بإيجاد حل للنزاع، لكن هذه الآمال سرعان ما تحطمت. وقد كانت رؤية الرئيس الأميركي وهو «يلقن درساً» من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، ثم رؤية الكونغرس الأميركي وهو يحتضن نتانياهو، مذلًا بذلك رئيسه، حدثاً دالًا ومعبراً فتح عيون كثيرين على حقيقة واقع مرير وصادم. ومع تطويع البيت الأبيض، وخروجه من لعبة صنع السلام، في المستقبل القريب على الأقل، تحولت سياسة واشنطن إلى مواضيع أخرى مثل الاقتصاد وإيران وانتخابات الرئاسة. ووسط هذا الخضم، لم يعد للفلسطينيين وحقوقهم أي مكان على الأجندة.
والمحبط والمخيب للآمال أيضاً هو الجهود الفلسطينية للجوء إلى الأمم المتحدة؛ حيث تدخلت الذراع القوية للولايات المتحدة لتمنع مبادرات تهدف إلى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية أو وقف الانتهاكات الإسرائيلية لهذه الحقوق.
وهذا الوضع المؤسف ترك تأثيراً كبيراً على الفلسطينيين خلال الـ45 عاماً الماضية.

فمع عملية أوسلو، استبدل عقدان ونصف العقد من الاحتلال الوحشي بواقع لا يقل وحشية. فخلال الاحتلال الذي سبق أوسلو، كانت الموارد الرئيسية للثروة الفلسطينية تتمثل في وظائف مياومة مذلة وزهيدة الأجر في إسرائيل، وإنتاج سلع تباع عبر وسطاء إسرائيليين. أما اليوم، فقد ذهبت كل هذه الأمور، ما جعل الاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية. ذلك أن الفلسطينيين يعيشون اليوم في نظام يشبه نظام «الأبارتايد»، عالقين في «كنتونات» معزولة تحيط بها حواجز تحول دون حرية التجارة والسفر، ويتعرضون للضغط على نحو متزايد جراء المستوطنات التي تنمو بشكل مستمر والطرق الالتفافية الزاحفة التي تقسِّم الضفة الغربية اليوم إلى أجزاء. ومدينة القدس، التي كانت مركز حياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فصلت اليوم عن الضفة الغربية. وغزة، الفقيرة دائماً، مخنوقة بالحصار وسكانها يائسون، كما يعلم الجميع.

لقد أثر كل هذا على المجتمع الفلسطيني، حيث جعل اقتصاده معتمداً على عدد من الموارد الخارجية وقيادته منقسمة، وبعض أطرافها يفتقر إلى الخيال السياسي. ومثلما هو الحال في أحيان كثيرة، فقد كان من عواقب القمع العنيف وطويل المدى تحويلُ العنف إلى الداخل وأشكال أخرى من السلوكيات المدمرة للذات أحياناً. والأدهى أن الجهود الرامية إلى تصحيح هذا الوضع أحبطت حتى الآن من قبل بعض الفلسطينيين الذين لا يريدون التنازل عما تبقى من قوة لديهم، أو من قبل أجانب استعملوا دعمهم المالي أو السياسي لعرقلة إنجاز الوحدة الفلسطينية وجهود تعبئة حركة مقاومة وطنية غير عنيفة.

وأمام لغة القوة التي تمارس بلا رحمة أو مسؤولية لنسف الأمل في التغيير، ما زال ثمة أشخاص يتخيلون سلاماً عادلًا وينظمون أنفسهم من أجل تحقيقه. صحيح أنهم يختلفون بخصوص التكتيكات وحتى الأهداف، حيث يدعو بعضهم إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات في حين يدعو آخرون إلى تحرك مباشر غير عنيف في الأراضي المحتلة، أو تنظيم أنفسهم سياسيّاً من أجل تغيير توجهات واشنطن. وفيما يدعم البعض حل الدولتين يدافع آخرون عن حل دولة واحدة ديمقراطية. ولكنهم يشتركون جميعاً في رفض الوضع الراهن، أكان النظام القمعي الذي فرض على الأراضي المحتلة، أو السياسة المختلة لواشنطن، أو التدخل والشلل الذي يعيق تحركاً فلسطينيّاً فاعلاً. إنهم يتخيلون حلاً عادلاً ويعرفون أنه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا نظموا أنفسهم من أجل تأمين القوة التي ستكون ضرورية لتحويل التغيير إلى واقع. وعليهم أن يحققوا ما يتخيلونه.  

السابق
مصر دولة قضاة ولبنان دولة ميليشيات
التالي
هل يتعلم السوريون من حروب اللبنانيين؟