من النعيم إلى الجحيم

على نحو متاجرتها بـ «المحرقة الهتلرية» ومواصلتها إبتزاز المانيا التي تقدِّم المال والسلاح البحري المتطور لها، فتحت إسرائيل يوم الخميس الماضي (5 نيسان 2012) ملف متاجرة جديدة تحت عنوان التعويض على 850 ألف يهودي كانوا يعيشون في عدد من الدول العربية ثم جرى تهجير بعضهم وهجرة البعض الآخر.

والذي طرح فكرة التعويضات عن الذين تسميهم إسرائيل «اللاجئون اليهود العرب إلى إسرائيل» هو داني الون نائب وزير الخارجية الذي أرفق طرحه للفكرة بحيثيات خلاصتها إن بضعة ألوف من اليهود «اضطروا إلى الهجرة في أواسط القرن العشرين جرَّاء سياسة العداء العربية لهم ولإسرائيل تركوا وراءهم ممتلكات وعقارات ومصالح اقتصادية جمة، وعلى الدول العربية وجامعة الدول العربية الإعتراف بمسؤولياتها عن هذه المشكلة ودفْع تعويضات كاملة لهم ولابناء عائلاتهم». ويوضح المسؤول الإسرائيلي بأن اقتراحه ليس من عندياته لكي يقال إنها فكرة برسم الترويج لها وإنما هو مشروع تم إعداده بالتعاون بين الخارجية ومجلس الأمن القومي التابع لديوان رئيس الوزراء، وأن الخارجية الإسرائيلية ستطْلق حملة دبلوماسية بهذا الخصوص.

أهمية هذا الاقتراح أن الخارجية الإسرائيلية تطرحه في زمن السعي لإيجاد تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي وفْق «مبادرة السلام العربية» التي إكتسبت الإجماع في القمة الدورية التي جرى عقدها في بيروت وحصل إلتفاف حولها، لأن صاحب فكرة المبادرة هو الملك عبد الله بن عبد العزيز وكان زمنذاك ولياً للعهد. وعلى رغم الخلافات العربية طوال تسع سنوات مضت على طرح المبادرة، فإن القمم التي تلت قمة بيروت أبقت على تمسُّكها بالمبادرة. وحتى بعد انتفاضات التغيير الذي أفرزه ما سمي بـ «الربيع العربي» لم يتنصل أي طرف عربي من موافقته على المبادرة. وهذا يعني ان المبادرة قائمة وانها فقط تحتاج إلى التفعيل وترجمة مواقف الدول الكبرى ازاءها إلى دعم يحقق تنفيذها.

ومن الطبيعي في حال أعلنت إسرائيل موافقتها على المبادرة أو إن الادارة الأميركية والحكومات الاوروبية ضغطت على إسرائيل لكي تعلن موافقتها على المبادرة والإنتقال من لغة العدوان والإستفزاز إلى لغة الحوار الموضوعي، فإن مسألة التعويضات ستكون من ضمن «أجندة» جلسات الحوار التفاوضي. وفي هذه الحال لا تعود إسرائيل وحدها تطالب بالتعويضات عن ممتلكات وعقارات «اليهود العرب» وإنما ستوضع على طاولات الحوار ملفات التعويضات للعراق الذي دمرت طائراتها مشروعه النووي ولتونس وسوريا وللشعب الفلسطيني المسلوب وطنه وللشعب اللبناني المعتدى عليه ولمصر التي شمل العدوان عليها مدرسة بحر البقر وإستشهاد وجرح عشرات من طلابها قضوا في قصف جوي للمدرسة. وهذا على سبيل المثال لا الحصر لأن الإعتداءات كثيرة كما هنالك تصفية عدد من الجنود الأسرى.

وإذا إقتصر الأمر على تبادُل التعويض فإن خزائن «اللوبيات» اليهودية وخزينة إسرائيل معها لا تكفي للتعويض على أجيال فلسطينية تقاسي ويلات العيش في المخيمات. كما أن هذه الخزائن لا تكفي للتعويض عن ملايين من العرب المسلمين والمسيحيين حرمهم الاحتلال الإسرائيلي للمقدسات من زيارة المسجد الأقصى وكنيسة المهد. وإذاً فالمسألة هنا ليست بالأسلوب الإبتزازي الذي تمارسه إسرائيل وعبَّر عنه نائب وزير الخارجية وإنما بالقبول أولاً بـ «مبادرة السلام العربية» التي صيِغت بكل موضوعية وإحساس بالمسؤولية وبما يحقق سلاماً دائماً واستقراراً ثابتاً.

وثمة نقطة لافتة وهي أن المسؤول الإسرائيلي يتحدث عن المسألة وكما لو أنها مطالبة بمكافأة لإسرائيل تحصل عليها اولاً، ثم بعد ذلك لكل حادث حديث، أي تحصل على المبالغ المليارية أولاً وبعد ذلك يتم الحديث حول خطوات لاحقة. وهي في ذلك تتصرف وكما لو أن فلسطين التي إغتصبت هي عبارة عن عقار منحه المجتمع الدولي لليهود، وانه بات مُلْكاً لهم. وأما إذا كان للفلسطينيين حق، فعليهم مقاضاة المجتمع الدولي وبالذات روسيا وأميركا وبريطانيا، فهذه الاطراف هي مَن باع وطن شعب إلى شعب متعدد الهويات تم استحضاره من الشتات الاوروبي والاميركي والروسي والافريقي.

بصرف النظر عن الاقتراح الذي نشير إليه ونعلِّق عليه وهل إن جانباً منه يتعلق بالظروف الاقتصادية الدولية ومدى تقتير بعض الدول على إسرائيل بعد السخاء الدائم خلال سنوات سبقت الكبوة المالية لدول عدة من بينها أميركا وبريطانيا وفرنسا، فإن الواجب هو البدء بإعداد كل دولة عربية وبالذات لبنان وسوريا ومصر والعراق وتونس وكذلك الطرفان الفلسطينيان (السلطة الفلسطينية وحركة حماس) ملفات حول ما أصابها من إسرائيل المعتدية منذ العام 1948، وذلك لأن الاقتراح الإسرائيلي على ما يجوز الافتراض سيأخذ طريقه في اتجاه أن يصبح موضع القبول الدولي به وبعد القبول يأخذ طريقه إلى التنفيذ بموجب قرارات أممية. وهذا يعني أن إسرائيل تخطط لتجفيف بحيرة الثروة العربية، ذلك أن الذي في إستطاعته دفع التعويضات هي دول الخليج والتي كلما أعلنت عن فوائض في ميزانياتها، تتلقف إسرائيل بعد الدول الكبرى الأمر وتبدأ البحث عن الاقتراحات التي من شأن وضعها موضع التنفيذ تعويض الخلل في ميزانياتها بمليارات تحصل عليها من هذه الدول العربية النفطية أو تلك.
ومِن هنا فليس من الضروري أن تتباهى أي من الدول النفطية العربية بأن الإحتياط لديها وفير وميزانياتها السنوية إلى ارتفاع، مع الأخذ في الإعتبار أنها عندما تذيع ذلك فلكي يطمئن الشعب إلى أن خزائن دولته ملأى إلى درجة الإكتناز وعليه أن لا يقلق. لكن بالمقابل فإن دولاً كبرى تبدأ التخطيط للحصول على بعض ما هو مكتنز وذلك من خلال إبرام صفقات تسليحية.

ثم ها هي إسرائيل تنضم إلى هذه اللعبة وتبدأ الترويج للحصول على تعويضات، وربما تخطط ضمناً إلى مقايضة أي دولة بحيث تحصل على المال وإلاَّ فالتلويح بتعويضات يستوجب الرد على هذه الفكرة بإنجاز ملف التعويضات المطلوبة من إسرائيل المعتدية والمغتصِبة والمبتهجة بالإضطرابات العربية.
وهذا الملف هو أكثر الملفات إقلاقاً وإرباكاً لإسرائيل التي بدأت الترويج للخطة الإستثمارية وهي التعويض على ثلاثة أرباع مليون يهودي كانوا في بلاد العرب مطمئنين وإلى درجة انهم باتوا نادمين لأنهم غادروا النعيم العربي إلى الجحيم الإسرائيلي. ففي زمن النعيم كانوا تجاراً شاطرين ثم ها هم في زمن الجحيم سلعة يتاجر رموز الحكم بهم.

السابق
هذا الجيش السوريّ… لماذا؟
التالي
للقوات: من يقاطع بكركي.. يخسر