مصر مركز التغيير في الشرق الأوسط

تمر مصر حالياً في مرحلة شديدة الغموض، على غرار المرحلة التي بدأت فيها الثورة في 25 يناير. لم يدّعِ أحد ـ بعيداً عن ايمان الثوار بالانتصار ـ معرفة نتيجة الثورة. لم يتصور أحد أن الرئيس حسني مبارك سيتنحى عن الرئاسة وأن نائبه الفريق عمر سليمان سيلحقه بعد ساعات من توليه الرئاسة. هذا الغموض، يعزز ولا يقلل من أهمية لا بل خطورة المرحلة التي تمر بها مصر. شكل "الجمهورية الأولى" ومضمونها سيحفر عميقاً في تاريخ تشكل مستقبل الدولة المصرية الوليدة من رحم ثورة 25 يناير.
المصريون كعادتهم يتعاملون مع هذا الحدث بهدوء وكأنه "ماتش كورة". بهذا يخففون من حجم التوتر الذي يعيشونه خصوصاً وأن كل الحملات السياسية تضع ما يجري في خانة المؤامرات التبادلية، الى درجة أنه لا يمكن حتى للمصري المتابع معرفة من يتآمر فعلاً على من.

بعيداً عن "التآمر" وتفاصيل المؤامرات، فإن مصر تعيش من خلال ما يجري وسيجري على وقع تحديات قوى داخلية ثلاث، ومتابعة عن كثب من قوى خارجية أبرزها الولايات المتحدة والعرب وإسرائيل وتركيا وإيران. هذه القوى هي:
 الإسلاميون. حيث "الاخوان المسلمين" هم عمود "خيمتهم". ليس أمراً عادياً أن تخرج قوة سياسية من "تحت الأرض" والعمل السري، الى ساحات الميادين أولاً ثم الى فضاء السلطة بسرعة صاروخية تتناسب مع هذا الزمن السريع الوقع. عملية القفز تمت من دون مرحلة انتقالية. باختصار يتعرض الإسلاميون خصوصاً الاخوان المسلمين الى اختبارات يومية يضطرون في الكثير منها الى "فحص دم" لمعرفة تعلقهم الأقوى بمصر التاريخ والجغرافيا أم بالإسلام ايديولوجيةً وممارسةً، بعيداً عن أيهما في خدمة الآخر، الدولة في خدمة الايديولوجيا، أم العكس صحيح؟
فوز مرشح "الاخوان المسلمين" برئاسة الجمهورية، يضع مصر أمام مفترق طرق حساس ودقيق. هذا الفوز يمكّن الاخوان الإمساك بمفاصل السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما يطرح أسئلة تنتظر اجابات مباشرة، خصوصاً وأن "ايديولوجية" "الاخوان المسلمين" تسمح لهم باختيار الاجابة التي تتناسب مع خيارهم. الدليل أنهم رأوا في ترشيح خيرت الشاطر تغييراً في الموقف وليس في المبدأ. أيضاً يستطيع الاخوان إذا ما حُشروا في زاوية العلاقة مع إسرائيل الانتقال بسرعة الايمان من الآية التي تقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، الى الآية "وإذا جنحوا للسلم فاجنح لها". الاختيار يعني حكماً المواجهة أو المساكنة.

أمام مرشح الاخوان المسلمين إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية أن يجيب على سؤال خطير وهو: هل عليه طاعة "المرشد العام" للاخوان، لتدخل مصر حالة "الجمهورية الإسلامية في إيران"، حيث الأمر للمرشد مهما بلغ رئيس الجمهورية من قوة مثل هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي؟ أم انه هو يكون الرئيس الذي يحكم؟ لدى الاخوان اجابة جاهزة لهذا الوضع المعقّد الذي يحوّل مصر الى "جمهورية سنية" طبق الأصل عن الجمهورية الإيرانية الشيعية. إذ يقولون "إن سلطة المرشد لا تعلو على سلطة السلطان". الأيام المقبلة ستوضح فعلاً أيهما سيكون الأقوى إذا ما فاز مرشح "الاخوان"، المرشد أم "رئيس الجمهورية".

أخيراً أمام الاخوان المسلمين، وليس رئيس الجمهورية والبرلمان وحتماً رئيس الحكومة، استحقاقات يومية في مواجهة "سبعين مليون فم" باختصار، أي سياسة اقتصادية سيتبعون وينفذون؟. الاجابة ستحدد ما إذا كان مرورهم سيكون مرحلة انتقالية يلزمهم بعدها عمادة النار هذه، الكثير من التجارب والدروس و"عبور الصحراء" كما يقال للعودة الى السلطة. يبقى أخطر الاحتمالات وهو أن يفوز مرشح مدني ولا يقبل الإسلاميون التعاون معه وهم الذين يمسكون بالسلطة التشريعية، فتقع مصر كلها في حالة من الشلل الكامل تحت أنظار العالم الذي سيكون بعضه خائفا على مصالحه والبعض الآخر شامتاً من كل ما حدث ويحدث.

المؤسسة العسكرية، وهي التي حكمت مصر منذ 1952 حتى اليوم مباشرة أو عبر الرئيس. ليس سهلاً على هذه المؤسسة أن تنتقل من موقع السلطة الكاملة الى موقع "الشريك الضعيف" المهدد بالإبعاد الى الثكنات عاجلاً أم آجلاً على مثال الجنرالات الأتراك، بحيث لا يبقى لها سوى العمل للمحافظة على بعض المواقع والمكتسبات الاقتصادية والإدارية.
لذلك فإن كيفية الطريقة التي ستتصرف فيها هذه المؤسسة، ستحدد طبيعة المرحلة الانتقالية، خصوصاً على صعيد العلاقة مع "الاخوان المسلمين" وحتى مع المجتمع المدني الذي سيتقدم لاحقاً الى مواقع السلطة، حيث هامش المناورة سيكون ضيقاً لأن القوى المدنية لن تقبل المشاركة في السلطة، فالسياسة للسياسيين فقط. المهم الا يغامر أحد من الجنرالات أو الضباط بالانقلاب على الجمهورية، لأنه هذه المرة ينقلب على الثورة ولا يصنع الثورة.

 القوى المدنية. وهي القوى التي فجّرت ثورة 25 يناير. مشكلتها أنها واجهت الوقت القاتل قبل ان تنتظم صفوفها، وتتمكن من المواجهة وأخذ ما تستحق من الثورة. في جميع الأحوال هذه القوى مرشحة للعب دور أساسي وريادي في صناعة "الجمهورية الثانية". حتى في هذه المرحلة، إذا ما صحت الاخبار بأن مرشحيها للرئاسة وهم ستة كبار يعملون على الوحدة والاتفاق على مرشح واحد في مواجهة احتمالين يحملان الكثير من جمرات الخطر:
ـ الأول، أن يفوز مرشح "الاخوان المسلمين" بالرئاسة وأن يتقاسم السلطة مع السلفيين، ويعمل على إلغاء الآخرين فتقع مواجهات من العنف المتبادل، ليصبح الجيش فيها هو الحكَم فتُهدر كل مكتسبات ثورة 25 يناير، أو يعمل على أساس أن السلطة خاضعة للتداول.

ـ الثاني، أن يفوز الفريق عمر سليمان بدعم من الجيش والقوى "المباركية" فتقع المواجهة الواسعة بين تحالفين: الأول يضم الاخوان المسلمين والقوى المدنية، والثاني هو الجيش و"المباركيين"، وما سيحدث، يمكن وضع سيناريوات عدة له، أحلاها مرّ.
مصر هي المركز. كل ما يحدث في مصر ولمصر يعني كل عربي، وشرق أوسطي، ومتابعة عملية التشكل والبناء يجب ان تتم بأكثر ما يمكن من الواقعية السياسية بعيداً عن التشاؤم القاتل أو التفاؤل المخدّر.

السابق
ارسلان: للخروج من أتون لعبة الامم
التالي
عرقجي: الطريق الى الدولة تمر بقانون انتخابي ديمقراطي