قطفها

منذ نزل سمير جعجع إلى ارض المعركة، لم يغادرها. ومَنْ بيتُه أرض المعارك، يصبح في حاجة الى «أمر عمليات» لينتقِل من معراب الى «البيال» العربي، او ليتنقّل بين الحديقة وغرفة النوم.

مراراً قال لي قبل اعتقاله:» بيئة الحرب والمعارك العسكرية ستؤخر كثيراً في وصولي الى اهدافي. ليتني جئت في زمن سلم وديمقراطية». لم يكذِّب خبراً. على رغم محاولة الاغتيال التي حصلت الاربعاء المنصرم، لم أشعر بخطورة ما حدث. عيون مَنْ حولي واتصالات الاصدقاء واسئلتهم، جعلتني «أُمسكُ واجِبَ» القلق! محاولة اغتيال ببندقية قنص؟ اين الجديد؟ لماذا هذا الهلع؟ في اعماقي لا اخاف عليه إلا من «الاغتيال السياسي». عرفت معه نحو خمس محاولات اغتيال. وكمثل استمتاعي بقصة بوليسية، كنت اتابع المعلومات والتفاصيل بسرور وشغف. كنت «طفوليا» وكانت لعبة، وان كانت مع دول واحزاب. مَنْ مثله, فهو يعيش منذ العام 1975 في الوقت الاضافي للعبة الاقدار. ما لفتني في اخصامه، انهم تمنّوا لو نجح الاغتيال. يا له من لبنان. يقطّعون لحمك على ترنيمة «انا الام الحزينة». حيّاً او ميتاً او معرضاً للاغتيال، ممنوع ان تربح انتخابات. لا يكفيهم انه يجب ان يُقتل، يجب ان يُقتل وهو لا يقطف الازهار. من شكّك في حصول الحادثة، كان اذكى في إبعاد الشبهات عن نيّاته، والافعال. يتصف آمرو الاغتيالات بغباوة شديدة. هل غيّر الياس المرّ اقتناعاته بعد محاولة الاغتيال ام زاد إصراراً عليها ودفاعاً عنها؟ حاولوا الذهاب بالياس المرّ، فجاءهم الياس أمرّ. لقد قذف الانفجار بمروان حماده الى الامام، لم يعده الى الوراء. ومي شدياق أليست اليوم أعلى صوتاً من صوت عبوة تحت مقعدها؟ غباوة ما بعدها غباوة. ذهبوا ببشير الجميل فجاءهم سمير جعجع.

يوم اقتيد سمير جعجع الى المعتقل، قرأت في جريدة ما معناه: «انتهى شخص، وانتهى حزب، وانتهت مرحلة». الجريدة عينها ما زالت تكتب عن هذا الشخص وهذا الحزب وهذه المرحلة.

بعدما تنبهتُ الى وجوب التهيّب من محاولة الاغتيال، سألتُ نفسي لو نجا جعجع من انفجار سيارة لا رصاص بندقية، ماذا كان ليحصل؟ مفاعيل اغتيال من دون اغتيال. مجلس عدلي. قرار ظنّي. محاكمة. هل تذكرون؟ ولكن رومنسية الحادثة، خفّفت الوطأة. ومسرحها البعيد نزع فتيلاً مفجراً. قناة تلفزيونية تنبّأت بأن الرجل سيستغلُّ سياسياً محاولة قتله! شكراً لمن اخترع علامة التعجب! بما ان المحاولة حصلت وهو يرتدي لباساً رياضياً، كان يجب ان يأخذ الامر بروح رياضية. الجهل يؤذي صاحبه. هذا يعني بمنطق تلك القناة ان من حاول القتل انما كان يمارس فضيلة، وإن من نجا انما ارتكب رذيلة.

يوم ذهبنا الى المطار لاستقباله بعد خروجه من السجن، اعترض مصافحتي له، صديق متلهف يندب الحظّ لأنه تأخّر في الوصول… وشاركه جعجع ندباً على هذا الحدث الجلل. احياناً تحتاج الى هذا القدْر من العبث والسخرية لتواجه طيبة الاصدقاء… وحقد الاخصام.

عبث وسخرية افضل ما يمكن ان تجبه بهما «سيناريوات» الخيال السياسي الخبيث. «افتعل الحادثة ليكسب في الانتخابات». لماذا افتعلها اليوم وليس قبل شهر من الانتخابات؟ «اراد ان يروّج لصورته العربية، فأتى بشخصيات من الربيع العربي». فعَربُ الربيع هم من يقررون رئيس الجمهورية المقبل. «اجتمع بحسني مبارك». ومبارك لا يكمل معروفاً. كان يجب ان يقول لجعجع «لا تأتِ الى القاهرة، انتظر لتقوم الثورة».

نحو خمس عشرة سنة كرّت سبحة الاحداث على نحو لا تشتهيه سفن سمير جعجع. منذ عاد، والاحداث تكرّ في مصلحته. يبدو ان التاريخ ينتقم لنفسه من نفسه. كنت اتعجّب كيف لهذا الرجل المفرط في الواقعية، أن يؤمن بما يمكن عربياً ان اسمّيه «سبحة الاحداث»، اي عندما تكرّ الاحداث في اتجاه واحد.

من وحي اسبوع الالام، اتذكّر انه كان يواظب على زياح الصليب في كنيسة صغيرة في مقرّ قيادته في المدور. ما إن يتجه نحو «الكابيلا»، حتى يكثر جمهور المؤمنين. واسوة بهذا الجمهور المهتدي حديثاً الى المسيحية، كنت ارافقه لا طمعاً بالنعيم ولا خوفاً من الجحيم. يوماً بعد يوم، كادت تخلو ساحات المجلس أوان الزياح. كلنا، إلا قلة مؤمنة حقاً، اصابنا الطرش، ولم نعد نسمع صوت ذلك الجرس الصغير. مرّة طلب مني ان «أُلملم الشباب». لملمتهم، ولم أنضمّ إلى المصلّين. من دون ان يقولها كنت اشعر بأنه لا يريد إحراج الخوري بهذا الكمّ الضئيل من المؤمنين. واقعي ويؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، و"بسبحة الاحداث". عندما سمعته في مؤتمره الصحافي، يسرد كيف رأى الزهرة، تذكّرت انه كان يحبّ فوضى الاشكال والالوان في الطبيعة. وكان يرى في تلك الفوضى انسجاماً وجمالاً، بعكس حياتنا العملية. البنّي والاحمر قد لا يتلاءمان في اللباس ولكن في الطبيعة يتلاءمان. لا اعلم لون الزهرة التي انحنى ليقطفها. لكنني متأكّد انه «قطفها».   

السابق
نداء الشعب.. يعيد عمر سليمان إلى سباق الرئاسة المصرية
التالي
فضائل إطلاق سراح كرم