المواد الفاسدة: ما خفي أعظم!

لصدفة وحدها فتحت ملف الموادالغذائية المنتهية الصلاحية واللحوم الفاسدة والمخزّنة في مستودعات تجارية. فالقصّة بدأت من رصد أمني لمستودعات سلاح، لتتحوّل إلى «قضية» سلامة الغذاء التي شغلت كل الأجهزة الإدارية والأمنية في الدولة والمفارز الصحيّة في المحافظات والبلديات

بعد نحو شهر، انحسرت الضجة التي أثيرت في ملف المواد الغذائية الفاسدة. إلا أن الأمر لم ينته إلى طمأنة المستهلك إلى سلامة غذائه، فبدا الأمر كما لو أنه «موجة» مرّت، إلا أنها كشفت وجود كميات هائلة من المواد المنتهية الصلاحية، ولا سيما اللحوم، يستهلكها اللبنانيون في ظل سيادة منظومة فساد متكاملة، تطاول آليات ومعايير الاستيراد والتوزيع والتخزين والتبريد، فضلاً عن تورّط المخلّصين الجمركيين الذين يوفّرون للتجار إدخال كميات من السلع بطرق غير مشروعة.

فقد مثّلت اللحوم المبرّدة (فاكيوم) الجزء الأكبر من الكميات التي ضبطت وهي منتهية الصلاحية، وهذه السلعة تدخل إلى لبنان بطريقين: واحد شرعي وهي لا تحمل صلاحية استهلاك أكثر من 40 يوماً لتصريفها واستهلاكها. والثانية تدخل مهرّبة بواسطة مستوعبات بكلفة (رشوة) تراوح بين 5000 دولار و10000 دولار على المستوعب الواحد، بحسب مصادر مطّلعة على سير التحقيقات.

في الواقع، يقول تجار اللحوم المبرّدة إنهم استوردوا كميات كبيرة من اللحوم المخصصة للاستهلاك خلال فترة عطلة الميلاد ورأس السنة، علماً بأن ما بين 15% و20% من الكميات المستوردة تذهب عادة إلى سوريا بطرق التهريب. لكن ما جرى فعلياً، أن الكميات لم تصرّف في السوق المحلية، فيما كانت السوق السورية راكدة تماماً ولم تستقبل هذه الكميات، فعمد التجار إلى تخزينها لتغيير تواريخها وإعادة تسويقها وبيعها، «وهو أمر اعتادوا القيام به»، بحسب ما يقول أحد تجار المواد الغذائية.

المفارقة تكمن في أن تتبّع هذه الكميات لم يحصل وفقاً لآليات الرقابة، بل فُتح بالصدفة. فقد بدأت القصة عندما كان جهاز أمني يبحث عن مخزن سلاح، فإذا به يكتشف وجود مخزن للمواد الغذائية الفاسدة، لتكرّ السبحة بسبب «وشايات» التجّار بمنافسيهم. فالروايات المتناقلة عن فتح ملف المواد الغذائية الفاسدة كثيرة، إلا أن أبرزها أن زوجة أحد المسؤولين تسمّمت، فكان الأمر بمثابة نقطة البداية. الأكيد أن هذه الحالة حصلت، لكن قبل يوم من عيد الاستقلال. أما الرواية التي يجمع عليها بعض الوزراء والمطلعين على الملف، فتقول إن واحداً من الأجهزة الأمنية كان يقوم بمهمة مراقبة مستودعات في منطقة الطريق الجديدة ـــــ صبرا، مشتبهاً في أنها تستخدم لتهريب السلاح إلى سوريا. إلا أنه لدى دهم المستودعات، تبيّن أن هناك كميات كبيرة من الأغذية المنتهية الصلاحية، حُدّدت لاحقاً بنحو 30 طناً.

أما «الوشايات»، بحسب مصدر أمني، فقد زرعت الخوف والقلق في نفوس «الغشاشين»، فسارع بعضهم إلى رمي سلعهم الفاسدة في مكبّات النفايات تحت جنح الظلام. ويعتقد المعنيون بهذا الملف أن لهؤلاء أسباباً أخرى غير «الوشايات» دفعتهم إلى رمي البضائع؛ ففي ظل الحملة الواسعة للأجهزة الأمنية، لم يعد بإمكانهم تصريف بضائعهم، ولا مكان لديهم لإتلاف الكميات التي يملكونها. وقد تبيّن أن هذه المكبات منتشرة في كل المناطق؛ إذ رصدت مكبّات في عجلتون، الكورة، النبطية، صور، البقاع، وفي بعض المخيمات الفلسطينية أيضاً.
إذاً، هي الصدفة التي كشفت رأس جبل الجليد، فهل تكون حافزاً لاتخاذ إجراءات تقي اللبنانيين شرّ التجار وجشعهم؟ هل الأمر يتعلق بغياب الرقابة وحدها، أم بمعايير السماح لدخول البضائع وخروجها وآليات الفحوص والتخزين؟

استناداً إلى الفواتير التي ضبطت مع المخازن والمستودعات المضبوطة في طريق الجديدة ـــــ صبرا والشياح، تبيّن أن التاجر الذي يمتلكها كان قد باع منذ عام 2005 إلى اليوم كميات كبيرة من السلع الغذائية المختلفة لنحو 220 شركة ومؤسسة سياحية وتجار آخرين. بعض زبائن هذا التاجر كانوا دائمين، ومنهم من اشترى في سنوات سابقة لمرّة واحدة. وبنتيجة تتبع البضائع والفواتير، تبيّن أن عدداً من الزبائن كان يملك سلعاً اشتراها من المستودع المذكور، وهي منتهية الصلاحية. لكن بعض العاملين لدى هذا التاجر بدأ يؤدي دور المخبر في الإشارة بالإصبع إلى مكان وجود مخازن إضافية لدى غير تجار، ثم أثبتت التحقيقات صحّة هذه المعلومات في بعض الحالات وزيفها في حالات أخرى. وتشير مصادر مطلعة، إلى أن الأمر أخذ طابعاً مذهبياً في بعض الأحيان؛ إذ عمد بعضهم إلى الوشاية بمن هم يعملون في المجال نفسه، ولكنهم من غير طائفة أو مذهب، حتى إن هناك 11 مستودعاً في الأشرفية وُشيِ بها على هذا الأساس، وتبيّنت صحّتها على الرغم من خلفياتها المذهبية.

في هذا الإطار، يقول تجّار لحوم مبرّدة لـنا ان التحقيقات اقتصرت على متابعة الشكاوى أو الوشايات، إلا أن الواقع يدلّ على وجود «عملية ممنهجة» يقوم بها البعض للاستفادة من هوامش الأرباح العالية، فيشترون كميات من اللحوم الفاسدة أو التي باتت على قاب قوسين أو أدنى من أن تنتهي صلاحيتها لتصريفها، مستغلين كسادها لدى تجّار آخرين، ثم يعمدون إلى تصريفها في الأسواق بعد تزوير تاريخها أو من دون ذلك، أي بتواطؤ من الأشخاص الذين يشترونها. ففي منطقة الفنار، قبل أسبوعين تحديداً من اكتشاف مستودع الطريق الجديدة وانفجار قضية سلامة الغذاء، ضُبط نحو 1.5 طن من اللحوم المنتهية الصلاحية، والتي تعدّ فاخرة لأن سعر الكيلوغرام الواحد منها يبلغ 45 دولاراً. وقبل أسبوع أيضاً ضبطت مديرية المستهلك طناً من السمك المنتهي الصلاحية في منطقة الحدث ـــــ الكفاءات… رغم ذلك، لم يتحول الملف إلى «قضية» كما حصل لاحقاً.

يعتقد بعض التجّار أن «التنافس بين الأجهزة الأمنية أسهم في تسليط الضوء على هذه القضية»، فالجميع أطلقوا مخبريهم للعمل على الملف، وبدأت المعلومات تتقاطع بين أمن الدولة ومخابرات الجيش وفرع المعلومات، وانضمت إليهم المفارز الصحية في البلديات، لتكشف عن وجود مواد غذائية منتهية الصلاحية هنا وهناك. وانتهت حصيلة هذا العمل، حتى الآن، بضبط نحو 215 طناً من مختلف الأنواع وفي كل المناطق. القسم الأكبر من المواد هو لحوم مبرّدة، والباقي هو عبارة عن أسماك ودواجن وسكاكر…

استدعى هذا الملف «الصدفوي» عقد اجتماع في السرايا الحكومية. هناك، قال وزير الزراعة حسين الحاج حسن إن المخلصين الجمركيين متورطون بهذا الملف بصورة كبيرة أيضاً، وفق ما ينقل مشاركون. لذلك، كان هناك إجماع على أن عمل النظام بصورة متكاملة يوفّر فرصاً أكبر لضبط السوق وفق معايير السلامة العامة، وهو ما حصل عندما تجمّعت قدرات الأجهزة الأمنية والوزارات المعنية والبلديات. وفي هذا الاجتماع أيضاً، تحدث المشاركون عن 30 عنواناً ضرورياً لدرء مخاطر بيع السلع المنتهية الصلاحية أو المتلاعب فيها. ومن أبرز هذه العناوين، تقرّر إجراء مسح شامل لجميع المؤسسات التي تتعاطى تجارة المواد الغذائية وتخزينها؛ فليست هناك جهة واحدة في الدولة اللبنانية تملك معلومات عن كل أمكنة تخزين هذه السلع، ولا عن مواصفات هذه المخازن وطرق استعمالها مثل التبريد والدخول والخروج منها وتوافر الكهرباء فيها بصورة دائمة.

أيضاً، كان هناك حديث عن ضرورة فرض الرقم الصحي على المؤسسات ووضع معايير لشروط التخزين (تعمل وزارة الزراعة حالياً على هذا الأمر)، إعطاء التاجر فرصة التبليغ عن البضاعة التي ستنتهي مدّة صلاحيتها قبل أسبوعين. ومن أبرز الأمور التي تحدّث عنها المجتمعون، تلك المتصلة بضرورة تعديل العقوبات وعدم استخدام الأحكام المخففة؛ فقد كان يتوقع أن تفرض غرامات مالية على 67 حكماً قضائياً صدرت في عام 2011 بناءً على إحالات مديرية المستهلك في وزارة الاقتصاد، نحو مليار ليرة، إلا أن استعمال القضاة الأحكام التخفيفية، خفض حصيلة الغرامات إلى 54 مليون ليرة من دون أي يوم حبس!

السابق
كل قمة عربية وأنتم بخير
التالي
الشهال: السلفية لا تستهدف المسيحيين