جعجع في الربيع العربي: مين ده؟

لا يحب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أكثر من المهمات المستحيلة، إلا الفشل في تحقيق أهدافه في هذه المهمات. فقد قرر أخيراً أن يدير ظهره لمحاولاته الحثيثة لتبوّء الموقع المسيحي الأول في لبنان، آملاً أن يحجز مكاناً لنفسه إلى جانب الإخوان المسلمين في قيادة الثورات العربية. لكن سؤال الثوار عن جعجع يُبرز استمراره بالفشل
كانت الساعة الرابعة بعد الظهر بتوقيت بيروت يوم السبت الماضي، الثانية ظهراً بتوقيت العاصمة التونسية. لم يكن يمكن إيجاد مارّ واحد في شارع حبيب بو رقيبة أو ميدان التحرير التونسيّ؛ فجماهير الثورة حجّت عن بكرة أبيها إلى مسرح قرطاج حيث ثبّت حزب النهضة شاشات عملاقة لينقل مباشرة احتفال القوات اللبنانية في وسط بيروت. ومن تونس إلى جارتها ليبيا، استبق الثوار سبت القوات المجيد بإقامة صلاة الجمعة على نية قائدها، مطالبين الحكومة الانتقالية بتغيير اسم مدينة بن غازي لتصبح بن جعجع.

أما في مصر، فيتجاوز «أثر جعجع» انفعالات الثوار العفوية: الأقباط يطالبون هنا بإحلاله محل البابا شنودة، والإخوان المسلمون يشترطون على الأقباط الانتساب إلى جناحهم المسيحي، أي القوات اللبنانية، لإشراكهم في الحكم. لم تعد احتفالات القوات مجرد عرس «أهلي (طوق – جعجع – كيروز) بمحليّ (بشري ودير الأحمر)». إذاً، باتت مناسبة فرح للأمّة. في لبنان بدت الصورة أوضح: زحفت الجماهير من جبل أكروم ووادي خالد وببنين في عكار، جارفة معها شعب مدينة الشهيد رفيق الحريري في المنية وطرابلس لتلتقي مع جماهير البقاع والطريق الجديدة التي خرجت «عن بكرة أبيها» أيضاً وأيضاً، هاتفة «الله جعجع طريق جديدة». وهكذا لم يستطع أنصار القوات «الخاص ناص» الفوز ولو بكرسي واحد من قاعة البيال الضخمة. في منامه، رأى جعجع أيضاً كل أولئك الذين سبق أن رفعوا رايات حزب الله في ساحات المدن والقرى اللبنانية يرفعون أعلام القوات، كيف لا وهو قد أقنع نفسه قبل نومه وخلاله أن حزبه يوازي حزب الله بالتنظيم والروحية القتالية، ولا يتميز عنه إلا بمواكبته الموضة العربية في حب الحياة والديموقراطية و«الثورة السورية»؟

المعارضة السورية: جعجع استيقظ
هذا كله في الأحلام القواتية، أما في الواقع، فـ«لا يصح إلا صحيح»، يقول جعجع. والصحيح أن رئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين، الذي يُعَدّ من أنشط المعارضين الموجودين في دمشق، نسي آخر مرة تابع فيها موقفاً لجعجع، يقول. ويشير إلى أن في ذلك دلالة على «عدم أهمية الأخير في ما يحصل في سوريا والمنطقة»، مستغرباً السؤال من أساسه عن رأي الشارع السوري بجعجع. وبرأي حسين، إن جعجع وبعض الآخرين لا يعنيهم الشعب السوري ولا يقلقهم القمع أو غيره، لكنهم يرونها مناسبة للانتقام من النظام. الأمر نفسه تقريباً يردده رئيس هيئة التنسيق الوطنية حسن عبد العظيم (وهيئة التنسيق تمثّل التجمع الأكبر للمعارضة السياسية الموجودة في سوريا) قائلاً: «نحن في هيئة التنسيق لا ننسجم بأي شكل من الأشكال مع جعجع هذا». والخلاف ليس شخصيّاً، بحسب عميد المعارضين السوريين، بل سياسي بامتياز: «نحن لا يشرفنا أن يؤيد ثورتنا من تعامل مع إسرائيل واغتال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، ولا تنسينا مواقفه اليوم عنصرية حزبه وممارساته»، مع تأكيد عبد العظيم أن مواقف بعض قوى 14 آذار تلقى ارتياحاً في بعض الأوساط السورية، أكثر من بعض مواقف 8 آذار التي كان يمكنها أن تظهر تفهماً أكثر للمطالب الشعبية المحقة. وعبد العظيم واثق من أن «السياسة السورية الخارجية ستبقى دائماً مناوئة لإسرائيل والولايات المتحدة ومن يقف معهما؛ لأن أغلبية الشعب السوري ممانعة أكثر من النظام بكثير». مع العلم بأن حسين وعبد العظيم يُعَدّان مهذبين جداً، مقارنة مع معارضين آخرين لا يروقهم أبداً أداء قائد القوات دور عراب ثورتهم. وتجدر الإشارة إلى أن الناشطة السورية هديل الكوكي التي ألقت كلمة في احتفال القوات أكدت لأصدقائها في اليومين الماضيين أنها لم تكن تعرف شيئاً عن الهوية السياسية للفريق الذي تتحدث من على منبره، علماً بأنها فرّت من سوريا قبل أشهر إلى جنيف حيث أدلت بشهادتها ضد النظام السوري أمام لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لتتعرض بعدها للاستغلال مرتين، مرة من المجلس الوطني السوري ومرة من القوات اللبنانية
.مصر لم تسمعه
إلى مصر. لم يتسنّ للمنسق العام والمتحدث باسم تحالف ثوار مصر عامر الوكيل سماع خطاب جعجع الأخير، قرأ العنوان «لكني لم أهتم بمعرفة فحواه». الأمر نفسه يكرره عضو مكتب الإرشاد في الإخوان المسلمين محمد علي بشر الذي قال: «ما سمعتش حاجة من كلام جعجع»، مستغرباً السؤال من أساسه. وثورة مصر تتذكر من دون شك من كان يعد التظاهرات الداعمة لإسقاط مبارك في بيروت والضاحية الجنوبية وقبالة السفارة المصرية ومن كان يعض أصابعه قلقاً على حليفه مبارك وصديقه مدير الاستخبارات السابق عمر سليمان. وفي مصر من ينظر إلى علاقة بعض اللبنانيين بقيادة نظامهم المخلوعة تماماً كما ينظر بعض السوريين إلى علاقة بعض اللبنانيين بقيادة نظامهم المستمرة. أما المرشح الرئاسي أيمن نور، فيرى أن جعجع يحاول تصحيح صورته في نظر الشعوب العربية، و«تشجعنا مواقفه الجيدة والرائعة على لقائه قريباً». ورداً على سؤال بشأن رأيه في زيارة جعجع الأخيرة للرئيس المصري السابق، يتمنى نور ضاحكاً لو يجد الرئيس أمين الجميّل الفرصة لزيارة الرئيس السوري أو العاهل السعودي، مؤكداً أنه عاهد نفسه على عدم لقاء الرئيس الجميّل في ما لو فاز بالرئاسة المصرية حتى لا يصيبه ما أصاب الرؤساء الآخرين الذين التقوا الرئيس اللبناني السابق. ولا يفوّت نور الاتصال أخيراً من دون أن يتمنى على سائر الأفرقاء اللبنانيين تغيير موقفهم من «الربيع العربيّ»؛ لأن «منطقتنا تحب لبنان لأنه بلد الحرية». وبالعودة إلى احتفال القوات، يسجل أن هجوماً جدياً شُنّ على النائب المصري محمد بو حامد لمشاركته في احتفال مَن وصفهم أحد المواقع المصرية بـ«شركاء إسرائيل في لبنان».

تونس تريد إسقاط إسرائيل
في تونس، يمكن الحديث عن ثلاثة أفرقاء هنا: الأول يمثل المعارضة التقليدية لنظام بن علي التي تستصعب الصفح عن «جماعة بن علي» أينما كانوا، داخل تونس أو خارجها. ولا يمثل جعجع بالنسبة إلى هؤلاء أكثر من بوق طائفي لبناني ارتبطت قواته في يوم من الأيام بإسرائيل. الثاني يتألف من أصولية إسلامية تسأل أولاً عن طائفتك وعلى أساسها تسمح لك بالكلام أو عدمه. أما الفريق الثالث، فيتألف من تلاوين حركة النهضة الإسلامية، أو ما يعرف خارج تونس بالإخوان المسلمين. النهضة متفائلة بجعجع، لكن النقاش مع قيادييها يبين أنهم يتحدثون عن غير جعجع الذي يعرفه اللبنانيون. فيقول القيادي في «النهضة» العجمي الوريمي إن «بعض المسيحيين الذين استعملهم الكيان الصهيوني أدواتٍ في مشروعه يسعون إلى أخذ مكان ضمن الفضاء العربي الجديد، فيراجعون خطابهم السياسي ويسعون وراء تحالفات جديدة تضمن استمرارهم». وفي الوقت نفسه يشير القيادي في النهضة إلى أن صوت جعجع من الأصوات اللبنانية التي تصل تونس منخفضة جداً، مقارنة مع الأصوات اللبنانية المؤيدة للمقاومة التي تلعلع في الشوارع التونسية، مؤكداً أن الاعتبارات السياسية، وخصوصاً الصراع مع إسرائيل، هي المعيار الأساسي في احترام الشعب التونسي لهذا الفريق اللبناني أو ذلك.
على الحكيم الاستيقاظ إذاً والتنبه ربما إلى أن ما يعجز عن فعله على صعيد قيادة المجتمع في جورة بدران وكرم سدة وبكاسين لن ينجح بفعله في صفاقس وسوهاج وبنّش.

إسلاميو لبنان: «تعفيس» و«نبلعه كالموس»

في لبنان، لا تثير مواقف جعجع شهية الإسلاميين، ففيما يتحاشى الشيخ أحمد الأسير الإدلاء بموقف واضح تجاه جعجع، يرى رئيس هيئة علماء الصحوة الإسلامية الشيخ زكريا المصري الذي يعد من أبرز القادة الميدانيين في عكار الداعمين للاحتجاجات في سوريا، أن «بعض مواقف جعجع صائبة لكنه يعفّس مرات كثيرة»، لكن «فعلياً أنا لا يهمني جعجع، فهو لا يقدم أو يؤخر بشيء، لا في سوريا، أو في أي مكان آخر خارج المناطق المسيحية». ويكرر المصري أكثر من مرة التأكيد أنه «لا أحد من معارفه أو في منطقته ينتظر سمير جعجع». وينصح المصري جعجع أخيراً بالتركيز على مناطق نفوذه ليتجاوز تمثيله بشري ويغلب العماد ميشال عون في الانتخابات النيابية المقبلة، مؤكداً أن «للمسيحيين في هذا البلد زعماءهم، للشيعة حزبهم وللسنّة سعد الحريري لا سمير جعجع أو غيره». ومن عكار إلى طرابلس، يقول الشيخ نبيل رحيم إن استرضاء جعجع وغيره الإسلام السياسي يُضحك البعض، لكنه يترك آثاراً إيجابية عند البعض الآخر، مشيراً إلى أكل الأخير من صحن الحريري حصراً، عبر القول لأنصار تيار المستقبل إن باستطاعتهم الانضمام إلى القوات اللبنانية بدل القوات السلفية، إن كانوا يبحثون عن خطاب هجوميّ أكثر تشدداً. أما في بيروت، فيقول إمام مسجد عثمان بن عفان ذي النورين الشيخ أسامة شهاب (وهو من أبرز إسلاميي بيروت) إن جعجع يلعب لعبة النائب وليد جنبلاط سابقاً الذي حاول عبثاً قيادة الطائفة السنية، لكنه من دون شك «لا يعبّر عن طموحنا ولا عن طائفتنا. وإن كانت مواقفه جيدة وصائبة، فالأكيد أن ليس باستطاعته قيادة طائفتنا». وينتهي الشيخ شهاب إلى القول: «أنا أمتعض حين أسمعه مرات، لكني أبلع الموس وأسكت». ويُنصح هنا بالابتعاد عند السؤال عن جعجع عن القوى الناصرية والعروبية والقومية، لأنها ستعلمك فوراً أنها قررت أخيراً هجر الناصرية والعروبة والقومية والالتحاق بأنور السادات. مع الأخذ بالاعتبار أن ثمة آخرين في الطائفة السنية يفرحهم جعجع من دون شك، إذ ينفس عن احتقانهم. منهم مثلاً النائب خالد ضاهر الذي سيسعده أن يكون مرشح القوات في عكار إن رفض الحريري إعطاء حليفه كرسياً نيابياً إضافياً.

السابق
حروب جنبلاطية كثيرة مقبلة
التالي
هل يجرؤ الإخوان المسلمون السوريون؟