قمة بغداد والمقاعد الشاغرة

لم يكن متوقعاً من قمة بغداد حتى أن تملأ المقاعد الشاغرة. غابت القضايا والملفات الملتهبة، وغاب اللاعبون الأساسيون بدولهم وشعوبهم. لم تكن سوريا وحدها خارج الجامعة. يعزل العرب بعضهم ويعتزلون طوعاً بعد انهيار الأسس التي قام عليها نظامهم الإقليمي، ولم تكتمل صورة مستقبله بعد.
منذ ستة عقود مزّق العرب هويتهم الجامعة وهم يتداولونها كإرث هبط عليهم بغير استحقاق. طبعوا العروبة بأسر في الخليج ثم بقيادات انتسبت إلى أحزاب وتيارات قومية انحسرت ثم انحصرت في جيل عائلي أو إطار قبلي مستحدث يجتمع حوله الناس بالولاء للسلطة.

على ما بين العرب من مشتركات لا تعد ولا تحصى سلباً أو إيجاباً كانت لديهم شأفة السلطة التي دار حولها معظم النخب السياسية العربية. لم يجتمعوا في بغداد لأن خلافاتهم فاقت أهمية كل التحديات التي تطاولهم حتى كأنظمة حاكمة. هم لا يعترفون بشرعية أوضاع شاركوا في صنعها. فلا العراق الذي أزال الهوية العربية من دستوره ولا الرايات الجديدة التي ترفعها الثورات وإفرازاتها رجوعاً إلى عهد الانتداب، ولا سوريا التائهة في أزمتها الدموية، ولا فلسطين اليتيمة، ولا مصر التي يعتصرها الفساد ويضبط قرارها الوطني، لا هذه جميعها واقعات من خارج تجربة العرب في تشكيل اجتماعهم السياسي الوطني أو القومي. تداعت العروبة وتتداعى الأنظمة التي استثمرتها لتغطية سلطات كيانية كانت أولوياتها كغيرها من الكيانات التي استثمرت شرعيات دينية أو سلالية. فإذا كان من تشخيص لإحدى أهم الظاهرات العربية اليوم فهي انفجار الوطنيات الكيانية تحت سقف القشرة الإيديولوجية المتفسخة والبالية. لكن هذه الوطنيات التي تحمل وجهاً انعزالياً وآخر إسلاموياً ملحقاً تدل على مشكلات هي في هذه المجتمعات الوطنية تتصل بحقوق المواطنة حتى وهي تلتبس بحقوق الجماعات المهمشة سياسياً واجتماعياً وثقافياً. هكذا تبدو المعركة الرئيسة لمعظم البلدان الساعية إلى التغيير، معركة دستور وكأن على الدستور أن يكون هوية جديدة للدولة. ليس الدستور هوية للدول والشعوب بل هو عقد اجتماعي ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم
وعلاقة المواطن بالآخر. ورثت الثورات العربية اليوم ما كان من قبل تقليداً، بأن تكون الدولة عربية اشتراكية وحدوية ناصرية أو بعثية. فلا بد والحال على ما كان أن تصير إسلامية أو مدنية بكل ما تعنيه هذه الهوية أو تلك من التباسات تعجيزية لأعظم أساتذة القانون الدستوري في العالم.
في واقع الأمر لا تحتاج الدولة إلى هوية تلصق بها من خارجها بنص دستوري أو بعلامة فارقة عائلية أو حزبية أو لغوية أو عرقية. فالدولة هي الهوية الحديثة للجماعات بما ينتظمها من حقوق وواجبات فلا تسعى إلى الانتساب إلا إذا كانت دولة ناقصة كما هو حال الشعوب التي لم تحصل بعد على استقلالها، وهذا شأن فلسطين وحدها في البلدان العربية.
ولعل أقرب مثال يدل على تجويف مضمون هوية الدولة أن اقتتلنا في لبنان من أجل بند ميثاقي أي تعاقدي يجمع أشتاتنا هو «لبنان عربي الهوية والانتماء». فلا زاد لبنان في العروبة شيئاً ولا كانت العروبة بحاجة إلى لبنان هذا. (ولن يزيد اليوم حنّون في الإسلام خردلةً…) لكن المشكلة في ما يبدو مصادرة للسلطة من باب هوية الدولة، وقد كان في معظم الدساتير السابقة طرفاً من هذه المصادرة حيث النص على إسلام رئيس الدولة أو على الإسلام كمصدر أساسي للتشريع. فلا شأن لهكذا نص إلا أن يميز في وظيفة الدولة وأن يجعل من سلطتها القاهرة قيداً على حرية الضمير، فلا يفيد الإسلام في التقدم ولا يفيد الدولة في شرعيتها. لا معنى للدولة إلا إذا كانت هي المجال العام المشترك لمواطنيها فهي حين تُختصر أو تُجتزأ لهوية تفسح المجال لانبعاث هويات سياسية تطلب حقاً من حقوق الدولة. هذا هو النموذج اللبناني المضخّم لدولة استلهمت نظام الملل العثماني فتحوّل التسامح في أرجائها إلى تناحر وبغضاء.
من حق الجماعات أن تتخذ لنفسها هويات كأن تكون مسيحية ديموقراطية، أو إسلامية للعدالة والتنمية أو الحرية، لكنها لا تستطيع أن تطبع الدولة بطابعها إلا وقد أجهزت على وظيفتها، لأن مجال هوية الجماعة في عصرنا ليس كما كان من قبل حيث «الناس على دين ملوكهم»، وكم من ملوك تبعوا هوية رعاياهم. فإذا أرادت رعية مؤلفة من طائفة أو جماعة أن تخترق مفهوم الدولة، ولا يمتد ذلك إلى حقها في المشاركة بالسلطة، تكون في طريقها إلى شكل من أشكال الهيمنة أو الانفصال. هذا هو مسار التجربة اللبنانية التي انهارت سيطرة جماعة مهيمنة تاركة المجال لمشاريع هيمنة تستحيل فتتحول إلى تقاسم فظ للسلطة ونبش مستمر تحت ركائز الدولة.
فإذا كنا شهدنا هذا المستوى غير المسبوق من الفساد، بل هذا الفساد المنظم على مدى صيغة تسوية الطائف للحكم الجماعي الطوائفي، فلأن الجماعات السياسية اتخذت لنفسها شرعيات الهويات التي تنقض مشروع الدولة. فالقداسة ليست حصرية في الثقافات الدينية السماوية بل هي كذلك تتم بنفس الآليات في الوثنيات الطائفية. في مجتمعات تسيطر عليها فكرة الهويات نكون أمام تنازل طوعي عن مبدأ حقوق المواطن ومبدأ المساءلة والمحاسبة وحتماً عن احترام القواعد الديموقراطية. هناك شرعية للاستبداد تتصل بفكرة الحق في الغلبة. هناك أكثريات محرومة وأقليات متحكّمة أو العكس. هناك مشروع اقتسام للسلطة على أسس لا علاقة لها بأفضل وسائل إدارة المجتمع بل بالامتيازات التي توفر الحماية لهذه الغلبة أو تلك. يمكن أن يصبح الفساد نمطاً من أنماط الحكم كما يحصل في لبنان. ويمكن أن تصبح الوطنية على حدود الجماعات ومصالحها. ويمكن أن تُداس حقوق النساء والأطفال والعمال والفقراء جميعاً وتصبح ممسوخة إلى الحد الذي يجري التعامل معها بوصفها كماليات أو ترفاً زائداً عن شرعية ملكية الأرض والديموغرافيا وعن كرامة الطوائف ورموزها. ويمكن أن تصبح ثقافة إلغاء الآخر حقاً مقدساً يدعيه منتسب إلى سلك من أسلاك أتباع الديانات أو هذا المذهب أو ذاك. ويمكن أن يصبح العرب كماً مهملاً في ميزان العالم لأنهم على صورة قمة بغداد لا يملكون قراراً ولا وجهة ولا إرادة.

السابق
استمرار فتاوى غرف النوم !!
التالي
ضبط سيارة محملة اسلحة عند مدخل عين الحلوة