مهمة أنان تناسب رغبة دمشق

إعلان دمشق قبولها خطة المبعوث الأممي والعربي كوفي أنان عشية انعقاد القمة العربية في العراق جاء كمحاولة امتصاص لإعلان بغداد الختامي للقمة. السبب لم يكن عائداً الى خوف في قلب النظام السوري من القرارات العربية التي تعهّد بتجاهلها حتى قبل صدورها في بغداد. السبب ان روسيا، وكذلك الصين، أرادتا قمة عربية أقل ابرازاً لدوريهما كراعيي عناد القيادة السورية، فضغطتا على دمشق لإعلان موافقتها على خطة النقاط الست التي قدمها كوفي أنان. كلاهما لم يعد في مواجهة مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة كما سبق، بل بات في مواجهة مع دول عربية سيما الدول الخليجية. ففي هذا المنعطف، تبدو ادارة باراك أوباما وكأنها في خندق واحد مع حكومة فلاديمير بوتين في ممانعتهما جهوداً عربية ملموسة لدعم المعارضة السورية بالسلاح أو بالمال أو بالمواقف السياسية حيال نظام دمشق. انها إدارة منصبة حصراً على بقائها في السلطة بأي ثمن كان، وهي عازمة على عدم التورط في سورية أو في أي مكان. لذلك تدفن رأسها في الرمال رافضة حتى التفكير بما قد يكون في مصلحتها ويخدم أولويتها، أي، إضعاف إيران عبر الساحة السورية بدلاً من المغامرة بإمكان قيام إسرائيل بعملية عسكرية ضد إيران تورّط فيها الولايات المتحدة. أما حكومة بوتين، فإنها تمارس حنكتها السياسية عبر سفينة الملاّح الماهر كوفي أنان الذي يبحر بين كبار اللاعبين الدوليين لترميم العلاقات بينهم، وفي المقدمة اللاعبان الأميركي والروسي. هذا فيما تستمر آلة القتل في سورية وفيما تشهد المفوضة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي ان هناك منهجية في استهداف أطفال سورية حمّلت مسؤوليتها لقيادة الحكومة السورية التي يفاوض كوفي أنان على استمرارها وليس على تنحيها، كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، برغم كل ذلك، ان الأمور أكثر تعقيداً والمطروح يتطلب قراءة أعمق للتعرف على معالم التجاذبات.

بعض الدول الخليجية طرح مع الإدارة الأميركية ضرورة «أفغنة» سورية بمعنى التعاون الاستخباراتي والتدريب ومد السلاح والمعونات للثوار من أجل إسقاط النظام. واشنطن رفضت وأرفقت الرفض بتصريحات لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ضد تسليح المعارضة مع التشكيك بالمعارضة وتصويرها وكأنها تابعة الى «حماس» أو الى «القاعدة».

إدارة أوباما تمسكت أيضاً بمنع بعض من حلفائها الخليجيين من الإصرار على إسقاط النظام في دمشق لأن ذلك يحرجها ويضعها على المحك. فهي أوضحت تماماً انها ليست في وارد تطبيق نموذج أفغانستان أو نموذج كوسوفو حين تم التدخل الخارجي من دون استئذان مجلس الأمن أو حتى السعي وراء ولاية منه.
بدلاً عن ذلك، تحوّل الخطاب السياسي من المطالبة بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد الى الاختباء وراء الفيتو المزدوج، الروسي والصيني لقرارات مجلس الأمن. فكان ذلك الفيتو «الهدية التي لا تكف عن العطاء» بالنسبة لإدارة أوباما. فتارة استخدمتها للتخجيل ورفعت شعار «العيب» بعبارات غير ديبلوماسية. وتارة أخرى، هرولت إدارة أوباما الى استرضاء روسيا والصين عبر بيانات رئاسية لمجلس الأمن ثم تفريغها من أسنان ورفعت شعار «الإجماع» تبريراً للمواقف الجديدة.

ثم جاء كوفي أنان. جاء مبعوثاً مشتركاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لكنه أصر على التصرف باستقلالية بصفته رفيع المستوى يستقبله كبار القادة في أهم العواصم. جاء طوق نجاة لدمشق وخشبة خلاص لواشنطن وموسكو وبكين. فحقق بذلك الخطوة الأولى التي كان ينشدها.

الآن، وبعدما فاوض فريق فني وسياسي أوفده أنان الى دمشق للتفاوض مع وزارة الخارجية، باتت النقاط الست تحت المجهر وبات أنان نفسه على المحك. فهو اليوم يضع مستقبله في الميزان بعدما عاد ماضيه الى الواجهة. البعض ينظر اليه بأنه وسيلة إنقاذ سورية البلد من الغرق في حرب أهلية، والبعض يعتبره أداة استمرار النظام واعادة تأهيله.

أثناء جلسة مغلقة في أحد المحافل الفكرية الكبرى، قال متحدث عن كوفي أنان «في أعقاب رواندا، والبوسنة، والنفط مقابل الغذاء، وتدخين السيجار مع صدام حسين، حان الوقت للكف عن اعطاء كوفي أنان فرصة أخرى ومزيداً من الوقت» على الساحة الدولية. آخرون أشاروا الى ان وساطته في كينيا أسفرت عن إبقاء الطرف الخاسر في الانتخابات في السلطة. البعض تحدث عن تاريخ علاقته مع القيادة السورية وإصراره على اعفائها من المحاسبة عندما كان الرئيسان الأميركي والفرنسي يدفعان الى محاسبتها بتهمة التورط في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري قبل 7 سنوات. انما أسوأ الذكريات التي يحييها البعض هي ذكرى المجازر في رواندا عندما كان أنان وكيل الأمين العام لشؤون حفظ السلام، وفضيحة «النفط مقابل الغذاء» التي أشارت الى تورط عائلته في تسخير أموال نفط العراق لمآرب شخصية.

انما هناك من يتبنى رأياً مخالفاً تماماً ليس فقط لجهة السيرة الذاتية لكوفي أنان الذي عمل لولايتين كأمين عام للأمم المتحدة، وانما أيضاً لجهة خطته ذات الست نقاط.

مجلس الأمن الدولي دعم، بالإجماع، تلك الخطة، كما ان القمة العربية دعمت أنان ومساعيه. وعليه، لا مناص من الاعتراف ان كوفي أنان حشد الدعم الدولي وراءه، ورمّم العلاقة الأميركية – الروسية، وتقدم بخطة محنكة تعطيه أدوات عديدة للضغط والاستنتاج في أي اتجاه يختاره. إنما هذا في حد ذاته يضعه تحت المجهر وعلى المحك ربما بقدر لم يكن يتمناه لنفسه. فربما تقوده النتيجة الى الاحتفاء بعودته الى الأضواء، وربما يندم ويتحسر.

النقاط الست التي وافقت القيادة السورية على تنفيذها، منطقياً، يجب أن تؤدي الى الأمور المهمة التالية: أولاً، انسحاب القوات الحكومية من الشوارع الى الثكنات بتزامن مع استمرار التظاهرات الشعبية السلمية ضد النظام كحق شرعي للشعب السوري. وهذا بحد ذاته يعني ان ديناميكية التظاهرات هي التي تحسم بقاء أو زوال النظام، وان المواجهة بين القيادة والمعارضة يجب أن تكون غير مسلحة على الإطلاق، بل مواجهة سلمية.

وثانياً، وبموجب إحدى النقاط الست التي وافقت عليها دمشق، على القيادة السورية تعيين محاور «تُخوّل له كل الصلاحيات عندما يدعوها المبعوث الى القيام بذلك». والهدف هو تنفيذ الالتزام بالعمل مع أنان «في إطار عملية سياسية جامعة بقيادة سورية لمعالجة تطلعات الشعب السوري وشواغله المشروعة»، من دون تحديدها أو تفصيلها.

مجلس الأمن، في البيان الرئاسي الذي اعتمده بالإجماع وتضمن دعم النقاط الست، أعلن انه يدعم مهام أنان لأهداف من بينها «تسهيل الانتقال السياسي بقيادة سورية نحو نظام سياسي ديموقراطي تعددي، يتمتع فيه المواطنون بالمساواة بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية أو العرقية أو العقائدية، وذلك بطرق، منها، الشروع في حوار سياسي شامل بين الحكومة السورية وكامل أطياف المعارضة السورية.

هذه اللغة ليست اللغة التي تبنتها جامعة الدول العربية عندما طالبت الأسد بتسليم السلطات الى نائب الرئيس من أجل الشروع في عملية سياسية انتقالية من النظام الحالي القائم على حكم الحزب الواحد – حكم البعث – الى حكم تعددي وديموقراطي. لكنها أيضاً ليست لغة الإبقاء على الوضع الراهن. موافقة دمشق على النقاط الست ليست موافقة على البيان الرئاسي بالضرورة، وهنا تبرز إحدى نقاط التلاعب الخطير. فكوفي أنان استبدل المطالبة بتسليم صلاحيات الحكم الى نائب الرئيس بلغة عائمة في أولى البنود الست تتحدث عن تعيين «محاور تخول له كل الصلاحيات» رهن قرار كوفي أنان تفعيل ذلك.

ثالثاً، البند الثاني من النقاط الست ينص بوضوح على أنه «ينبغي ان تقوم الحكومة السورية بالوقف الفوري لتحركات الجنود نحو المراكز السكنية وإنهاء استخدام الأسلحة الثقيلة فيها، والشروع في سحب الحشود العسكرية من المراكز السكنية وحولها».

ويضيف: «وسيسعى المبعوث الى الحصول على التزامات مماثلة من المعارضة وجميع العناصر ذات الصلة لوقف القتال والعمل معه لكي تقوم جميع الأطراف بالوقف المستمر للعنف المسلح بجميع أشكاله تحت الإشراف الفعلي لآلية تابعة للأمم المتحدة».

سيرغي لافروف أسرع الى مطالبة المعارضة بالموافقة على خطة أنان ذات النقاط الست مقابل موافقة الحكومة السورية، لكن خطة أنان واضحة في مطالبة الحكومة السورية بالبدء أولاً بسحب القوات العسكرية الحكومية الى الثكنات فيما «سيسعى» كوفي أنان الى الحصول على التزامات مماثلة. منطقياً، إذا انسحبت القوات الحكومية لن تبقى المعارضة المسلحة في الشوارع. منطقياً، إذا كانت هناك نية حسنة بتنفيذ الاتفاق، ان نقطة الانطلاق هي «الشروع» في سحب الحشود العسكرية الحكومية الى الثكنات.

قبول كوفي أنان بموافقة الحكومة السورية على نقاطه الست وإعلانه ذلك من بكين قبل التوجه الى مجلس الأمن لإحاطته علماً بتفاصيل ما توصل اليه الفريق الفني الذي تفاوض مع السلطات السورية، أثار غضباً واحتجاجاً في أوساط مجلس الأمن. ثم ان عدم إبلاغ مجلس الأمن بتفاصيل آلية المراقبة التي ستتكوّن من قوات للأمم المتحدة زاد من السخط.

ولم يأتِ الاحتجاج على طريقة تصرف كوفي أنان من الأمم المتحدة فحسب وانما أتى أيضاً من دول عربية علماً بأنه المبعوث المشترك للاثنين. فلقد علمت الدول العربية من المسؤولين الإيرانيين ان كوفي أنان اعتزم زيارة طهران في إطار مهمته السورية، فثار الغضب، أولاً لأن أنان جعل ايران طرفاً في المسألة السورية، وهي عربية. وثانياً لأنه ضرب بعرض الحائط كونه معيناً مبعوثاً عربياً وليس أممياً فقط وان مرجعيته تشمل قرارات جامعة الدول العربية. وثالثاً، لأنه أهان القمة العربية التي لم يفكر بحضورها فيما كانت تتسرب الأنباء عن اعتزامه زيارة إيران.

موسكو راضية عن أنان بل في غاية التحمس لمهامه، وكذلك بكين. واشنطن تتكئ عليه وتريد حمايته بل والتأقلم مع طروحاته حتى إذا خرجت عن المبادئ التي أعلنتها إدارة أوباما. أما مهام كوفي أنان فإنها تزحف على وتيرة هادئة وبطيئة بما يناسب القيادة في دمشق التي تريد شراء الوقت لأنها تعتقد انه في صالحها، وهي تتصرف وشهر تشرين الثاني (نوفمبر) في ذهنها بأهميته الانتخابية في الولايات المتحدة. ومع هذا، لربما تحت أكمام الملاّح الماهر أفكار غير اعتيادية قد تؤدي الى نجاح باهر لمهمته – تلك المهمة التي أوكلت اليه بموجب قرارات انطلقت من إيجاد وسيلة سلمية لأنهاء نظام الحزب الواحد وإيجاد مخارج لتنحي قيادة النظام.

السابق
كهرباء.. بنزين.. وماذا بعد؟
التالي
سورية الثابتة بين القمم