من جرب المجرب …

لم يعد ممكناً تعريف كوفي أنان بأنه موفد جامعة الدول العربية الى سورية، بل يمكن القول إنه صار فقط موفد الأمم المتحدة المعطلة الدور بسبب موقفي روسيا والصين، ذلك ان مبادرة الجامعة التي تنص على تفويض بشار الأسد صلاحياته الى نائبه لبدء مفاوضات مع المعارضة حول نقل السلطة تختلف كثيراً عن خطة النقاط الست التي قدمها أنان، والتي أعلنت دمشق لفظياً أنها وافقت عليها.

والواضح ان العرب اخطأوا بقبول موفد مشترك مع الامم المتحدة، لأنهم أقحموا بذلك الفيتو الروسي في صلب جهودهم لحل مشكلة تعنيهم بالدرجة الأولى وتركوا للموفد الدولي حرية زائدة للتفاوض باسمهم رغم الاختلاف في المصالح والتحليل والاستنتاجات. وكان عليهم بعد تعطيل موسكو مجلسَ الأمن، أن يتركوا هامشاً بينهم وبين المنظمة الدولية، بحيث يمكنهم التحفظ عن اي مقاربة لا تلبي رؤيتهم للحل والتدخل لتعديلها.

كان الروس يشعرون بالحرج من الإجماع العربي على ضرورة رحيل الأسد، فصار العرب محرجين لاضطرارهم الى دعم تسوية تلتف على إجماعهم. والقمة العربية المنعقدة اليوم في بغداد تجد نفسها مضطرة الى تأييد خطة الموفد الدولي الذي يتحدث باسمها ايضا، ما يعني خفض سقف خطابها والمساواة بين النظام والمعارضة في المسؤولية عن العنف، بحسب ما تنص عليه الخطة، الامر الذي كانت رفضته منذ البداية.

تنطلق مقاربة انان من واقع ان النظام السوري لا يشكل أي تهديد للنظام العالمي، وان رحيله ليس شرطاً واجباً لوقف العنف، بينما يعرف العرب ان نظام عائلة الأسد منذ قيامه قبل أكثر من اربعين عاماً، مثَّل ويمثل تهديداً فعلياً للنظام العربي، نتيجة الخرق الذي أحدثه فيه لمصلحة طرفين خارجيين هما إيران وإسرائيل، ويرون ان تغيير الحكم السوري اساسي في حماية نظامهم من الاستهداف الإيراني الذي لا يهدأ ويجد له سنداً قوياً في دمشق ونفوذها الممتد الى لبنان.

اما الذي سينقذ ماء الوجه العربي، ولو أنه لن يحل مشكلة سورية، فطبيعة النظام السوري نفسه، اي عدم قدرته على الالتزام بما يرى فيه خطراً ولو بسيطاً على استمراره. وكما سيتبين لاحقاً لكل الاطراف، فإن دمشق ستجيد التلاعب بخطة النقاط الست وأولوياتها، وستطرح شروطاً تفصيلية تعجيزية للتنفيذ، مثلما تمكنت من قبل من إفراغ مهمة المراقبين العرب من مضمونها وتحويلها لمصلحتها، الى ان اضطرت الجامعة الى التخلي عنها.

ومن اللافت أن يقترح أنان وقف الجيش السوري إطلاق النار وسحب أسلحته الثقيلة والعودة الى ثكناته، ثم يطالب بهدنة يومية لساعتين، وكأنه يقر بأن تنفيذ النقطة الأولى ليس وارداً.

أما في جانب المعارضة السورية، التي يدعوها انان الى الحوار مع النظام، فلا يرجح ان يكون هناك من يجرؤ على الجلوس الى طاولة واحدة مع ممثلي الأسد للتفاوض على ما هو أقل من رحيله. وما زيارة الرئيس السوري الى حي بابا عمرو المدمَّر اول من امس، سوى رسالة واضحة عن نوع التفاوض الذي يرغب في خوضه.

وإلى أن يتمكن المعارضون السوريون على الارض من قلب المعطيات وفرض التغيير، سيظل هناك وسطاء عرب ودوليون يتنقلون بين العواصم ويجربون المجرب.  

السابق
قمّة بغداد وسحب المبادرة «السابقة»
التالي
الرئيس المنتصر على «بابا عمرو»