معالي الوزير، لنصلح ونغيّر بلا توتر 

لقد كان عدد كبير من اللبنانيين متعاطفاً مع قلق أهالي المنصورية، عين سعاده وعين نجم، بخصوص موضوع كان شغلنا الشاغل في السنوات الماضية، ألا وهو الحقل الكهرومغناطيسي الناتج عن خطوط التوتّر العالي. قسم كبير، إن لم نقل القسم الأكبر، من الدراسات والتقارير الجديّة (حدّث ولا حرج عن الدراسات غير الرصينة في هذا المجال) أشارت إلى وجود علاقة إحصائيّة (corrélation statistique) بين التعرّض للحقول الكهرومغناطيسيّة وظهور بعض الأمراض لدى الناس القاطنين تحتها، ولا سيّما سرطان الدمّ لدى الأطفال. غير أنّ هذه الدراسات نفسها لم تتوصّل إلى تأكيد العلاقة السببيّة (causalité) بين الأمرين، بطريقة لا تحتمل الشكّ. وهذه هي بالضبط النقطة التي يسعى بعض المسؤولين إلى التشديد عليها اليوم، إنما في هذا جزء فقط من الحقيقة. أمّا الجزء الآخر، الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، فهو أنّ مجمل تلك الدراسات لم تنفِ، في خلاصاتها، نفياً قاطعاً عدم إمكان حتميّة هذه العلاقة. ونحن لا نزال بحاجة إلى فهم أعمق وأشمل للآليّات البيولوجيّة (الخلويّة والجينيّة وغيرها) لنتمكّن على ضوئها من تفسير النتائج الإحصائيّة. وفي هذا السياق، ظهرت في 2005دراسة (1) إحصائيّة إنكليزية واسعة، شملت إنكلترا وويلز، لمجمل القاطنين تحت خطوط التوتّر العالي وإلى حدود 600 متر. وخلَصَت هذه الدراسة إلى أنّ 1% من حالات سرطان الدم لدى الأطفال يمكن أن يُعزى سبُبها إلى الحقل الكهرومغناطيسي، إنّما أضافت الدراسة من جهة أخرى أن تكون هذه التقديرات غير دقيقة إحصائيّاً. أيضاً وفي تقرير آخر (2)، مقدَّم في 2004 للإدارة العامة للصحّة الفرنسيّة، تفيد مجموعة الخبراء التي أعدّته أنّه إذا أُثبِتَت العلاقة السببيّة فإنّ 0،4% إلى 2،7% من حالات اللوكيميا لدى الأطفال دون 15 سنة يجوز أن تُنسَب إلى التعرّض للحقول الكهرومغناطيسيّة. وأخيراً أذكر أنّه منذ 2002، كانت «الوكالة الدوليّة لأبحاث السرطان»(3) قد صنّفت التوتّر العالي عاملاً «مسرطناً محتملاً لدى الإنسان» ( possibly carcinogenic in humans )، وذلك بسبب غياب الدلائل القطعيّة.
لست هنا بوارد أن أنقض ما قاله هؤلاء الخبراء، ولا أن أؤكد أنّ العلاقة السببيّة موجودة حتماً بين الحقل الكهرومغناطيسي وبعض الأمراض، كما أنني لست بوارد أن أضيف الارتباك والبلبلة إلى هذا الموضوع الحسّاس والشائك، غير أنّه، من أجل فهم أكبر لهذا التضارب الواضح في كافة الدراسات والتقارير، هناك عدد من النقاط التي تستحقّ أن نذكرها:
1. اختلاف الجهات المعنيّة التي تقوم بالأبحاث، فهم إمّا باحثون مستقلّون أي في رأيي أهل للثقة، أو جهات رسميّة عامّة ملحقة بالحكومات، أو جهات خاصّة مموّلة من شركات إنتاج الكهرباء نفسها، التي هي عادة محط للشكّ.
2. الاختلاف في تقويم مدى تأثير حقل التوتر، الناتج عن الاختلاف في اعتماد «القيمة القصوى» التي يمكن أن يتعرّض لها المرء دون خطر. فبعض الدراسات تسمح بالتعرّض لحدود 0.4 ميكرو تسلا (وحدة قياس الحقول المغناطيسية) فقط، بينما البعض الآخر يجيز التعرّض إلى حدّ 100 ميكرو تسلا، أي مئتين وخمسين مرّة أكثر من الأولى!
3. الاختلاف في شرائح الناس الذين شملتهم هذه الدراسات على صعيدين. على الصعيد الأول من حيث المهن التي يمارسونها، فهم إمّا عاملون في شركات الكهرباء نفسها، أو قاطنون قرب خطوط التوتّر العالي. وهنا تجدر الإشارة إلى أهميّة أوقات التعرّض، خلال النهار أم خلال ساعات النوم. أما الصعيد الثاني، وهو الأهم، فهو متعلّق بعمر هؤلاء المواطنين، فتأثير الكهرباء ليس هو نفسه على البالغ، كما على الطفل، أو الجنين.
بدأت الأسئلة بشأن تأثير الحقول الكهرومغناطيسيّة على صحّة الإنسان تُطرَح منذ أواخر السبعينات. والآن، بعد أكثر من أربعة عقود، لا نجد جواباً شافياً لهذا السؤال، لا بل نحن أمام خلاصات في غاية التباين، ويكفي أن نعلم أنّ الخبراء والعلماء لم يستطيعوا حتّى الآن الجزم في هذا الموضوع، حتّى نتردّد كثيراً قبل إطلاق أي موقف مطلق ينفي أو يؤكّد الخطر، لكن يجب أن نشدّد هنا وبقوّة على أنّ عدم تأكيد الخطر ليس مرادفاً لتأكيد عدم وجوده، وإنّما كانت الاحتمالات العلميّة مفتوحة. وهذا شأن الكثير من المواضيع المتعلّقة بالصحّة، التي تتبدّل أجوبتها مع مرور الوقت، وتبدّل الظروف وتطوّر الأبحاث، وللأسف بعد فوات الأوان في كثير من الأحيان.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الكهرباء هي أمر أساسي في حياتنا اليوميّة. والوزير باسيل مشكور على جهوده الواضحة في تأمين هذه الطاقة بأحسن طريقة ممكنة ولكلّ الناس، لكن لا يجوز للتيّار الكهربائي أن يمرّ ولو على حساب مواطن لبناني واحد. ثمّ إنّني أودّ لو أرى من جديد الحرقة في أعين نوّاب المنطقة على قلق الأهالي وخوفهم، الذي هو مبرّر جداً.
إنّ الحلّ يكمن في إبعاد الأعمدة عن البيوت والمدارس، هذه الأعمدة ـــــ الكابوس التي أفسدت أيامنا و«درزت» لبنان في طوله دون إعلام، أو أخذ رأي أيّ مواطن مجاور لها. وإبعادها يكون إمّا عن طريق إزاحتها، وهذا وارد في بعض المناطق، كبلدة كفرقاهل الشمالية، أو بطمر الأسلاك. والكل يعي أنّ هذا يتطلّب دراسة علميّة جديّة لمعرفة «العمق المطلوب» الذي يجب أن تصله هذه الأسلاك، فمجرّد إخفائها عن النظر تحت الأرض ليس كافياً، كما أنّ الكلفة المطلوبة لعمليّة كهذه، ولو مرتفعة، ليست مالاً هباءً بل في سبيل السلامة العامّة. وفي النهاية، الكلّ يعلم أن هناك خطأً فادحاً حصل، والحلّ وإن لم يكن سهلاً فهو بالتأكيد ليس مستحيلاً. المطلوب هو إصلاح هذا الخطأ بتغيير مواقع الأعمدة الخطرة أو بطمر الأسلاك، بطريقة مدروسة ودون شكّ علمي فيها. فليكن هذا موقفاً تاريخيّاً نفتخر به كلّنا لحظة تصل الكهرباء على نحو آمن وعادل لكل مواطن ومواطنة.  

السابق
..فوق “طاقة” الاحتمال
التالي
قمّة بغداد وسحب المبادرة «السابقة»