السياسـة تحمـي التعامـل مـع إسرائيـل؟

يستعدّ المحكوم بالتعامل مع إسرائيل فايز كرم للخروج من مركز توقيف الشرطة العسكرية في «الريحانية»، خلال أيام، بعدما استفاد من قانون خفض السنة السجنية إلى تسعة أشهر، الذي أقرّه مجلس النواب الأسبوع الماضي.
بذلك، يكون كرم قد سُجن أقل من عامين، تماشياً مع حكم القضاء العسكري الذي صدر في حقه، بعد توقيفه في آب العام 2010. لكن السخرية في الموضوع لا تكمن في أن كرم استفاد من خفض السنة السجنية فحسب، بل إنها تعيد طرح علامات استفهام حول تعاطي القضاء مع ملف العملاء «النافذين».
فقد تحوّل التعامل مع إسرائيل في لبنان، مع توقيف كرم وإطلاق سراحه المتوقع قريباً، إلى جرم خفيف، بسيط، يثبت أن لبنان محكوم من طبقة سياسية فاسدة، اعتاد حكّامها – من فريقي 8 و14 آذار – على اجتراح الحلول لكل خطيئة يقترفونها: في سرقة أموال الشعب، في تأجيج الطائفية، وأخيراً في العمالة للعدو.
عند توقيف كرم، العميد السابق في الجيش اللبناني والقيادي في «التيار الوطني الحرّ»، تردد أن تهمة العمالة ملفقة من «شعبة المعلومات»، على اعتبار أنها «محسوبة على تيار المستقبل». إلا أن الجلسات القضائية أثبتت، تباعاً، أن كرم عميل لإسرائيل.
مع ذلك، بدا الحكم المخفف لكرم، وفق المادة 278، سابقة في تاريخ القضاء، خصوصاً في ما يتعلق بمحاكمة عملاء إسرائيل منذ بدء كشف شبكات التجسس الإسرائيلية، في العام 2009.
قريباً، يخرج كرم من السجن، من دون تجريده من حقوقه المدنية (وله في ذمّة القضاء شهر).
أن يكون الرجل عميلاً لإسرائيل أم لا، سؤال لم يعد في بال أحد، حتى من أقرب المقرّبين لكرم. إنه عميل إسرائيلي.
السؤال الأساس، اليوم: كيف سيتعامل القضاء، بعد قضية كرم، مع العملاء الإسرائيليين؟ هل أصبحت العمالة الإسرائيلية وجهة نظر، يتعيّن على «بطلها» أن يكون مدعوماً سياسياً؟

التوقيف والمحاكمة

في صباح الثالث من آب العام 2010، انتشر خبر يفيد باختفاء كرم من منزله في الكسليك. وما إن استنفرت الأجهزة الأمنية ظنّاً أنه اختطف، حتى أبلغت «شعبة المعلومات» وزير الداخلية حينها زياد بارود بخبر توقيف كرم، في تهمة تعامله مع العدو الإسرائيلي. «لقد اعترف بعمالته»، قال المعنيون في الشعبة لبارود، الذي نقل الخبر إلى النائب ميشال عون. توقيف «شعبة المعلومات» لكرم، استند إلى «التأكد بصورة قاطعة وحاسمة بأن المدعو فايز كرم، هو المستخدم الفعلي للأرقام الدولية المشبوهة (نمساوي وبلجيكي وألماني) في التواصل مع استخبارات العدو الإسرائيلي»، وفق محضر التحقيق الرسمي.
كان الخبر صادماً لعون، وتصدّر نشرات الأخبار المحسوبة على 8 و14 آذار. وفي اليوم ذاته، قصد أحد المسؤولين عن أمن عون مقرّ الشعبة. اطلع الرجل على ملخص لملف عمالة كرم، وتسلّم رسائل موجهة منه إلى زوجته وابنته وابنه، بعد موافقة السلطة القضائية.
كتب كرم في إحدى الرسائل التي لم تُنشر سابقاً، والتي لم يسمح القضاء بتسليمها إلى المرسل إليه عون: «أنا اليوم متهم بالعمالة، وهذا الأمر صحيح جزئياً. أولاً هو صحيح بسقوطي داخلياً، ولانجراري وتواصلي مع هذا الشخص المعروف بانتمائه الإسرائيلي، وهذه العلاقة اختصرت بالاتصالات الهاتفية، وقد توقفت منذ نحو السنة ونصف السنة. لك مني سيدي العماد كل المحبة والاحترام، واعذرني على فعلتي المتهورة».
وفي الرسالة الموجهة إلى زوجته، كتب: «اعذريني، اعذريني، لم أقدم على هذا العمل إلا نظراً لتهوّري». وإلى ابنه: «بدلاً من وسام الشرف والكرامة، انحدرت اليوم إلى مستوى العمالة». ولابنته: «جلّ من لا يخطئ، وأنا أخطأت، وخطيئتي عظيمة».
في اليوم التالي لتوقيف كرم، ألغى عون مواعيده ونشاطاته، وتردد أنه أصيب بصدمة. وفي الكواليس، طلب من «حزب الله» رأيه في الموضوع، فكانت نصيحة الحزب بعدم التسرّع لسببين: «الأول هو أن فرع المعلومات لن يوقف كرم من دون وجود أدلة دامغة، والسبب الثاني هو أن الفرع لن يتجرأ على الإقدام على خطوة بهذا الحجم، من دون أن يكون متيقناً من تورط كرم بصورة لا تقبل الشك والتأويل، لأنه يدرك خطورة هذا النفق».
مع ذلك، توجه عون بسؤال إلى استخبارات الجيش طالباً التدقيق في الملف، ثم تزويده بجواب عن مدى صحة تورط كرم. كان الجواب واضحاً ومقتضباً: «فايز كرم عميل إسرائيلي».
وفي اليوم الرابع لتوقيف كرم، أحيل العميد المتقاعد على قاضي التحقيق العسكري. بدأ استجوابه بسؤال تقليدي: «هل تعرّضت للتعذيب من جانب المحققين؟»، فكان جوابه بالنفي. أما السؤال الثاني، فكان عن مضمون التحقيق الأوّلي الذي أجرته الشعبة معه، فأقر كرم في ما ورد بالتحقيق، ثم أعيد إلى شعبة المعلومات لمتابعة التحقيق.

14 ألف يورو

في التحقيق الأوّلي، اعترف كرم بأنه تلقى مبلغ 14 ألف يورو من مشغله الإسرائيلي، لافتاً الانتباه إلى أنه التقى به ثلاث مرات فقط، في فرنسا، منذ العام 2006 وانقطع الاتصال به في العام 2009، مع بدء حملة تفكيك شبكات التجسس الإسرائيلية.
واعترف كرم، في التحقيق الأوّلي، بأنه تعرّف إلى شخص إسرائيلي يُدعى موسى في العام 1982، لكن «لم أتواصل معه إلا بدءاً من العام 2006، من خلال المدعو رافي. ثم استمرّت العلاقة، وكانوا يسألونني عن علاقات عون بالتيارات السياسية اللبنانية، وخصوصاً حزب الله».
لكن في الجلسة الثانية مع قاضي التحقيق، تراجع كرم عن إفادته الأولية، مشيراً إلى أنها وردت تحت الضغط والتعذيب، بالإضافة إلى تصحيحه معلومة مهمة: «عندما اجتمعت مع المدعو رافي في فرنسا، كان ذلك على أساس أنه موظف دبلوماسي في السفارة الإسرائيلية في لندن».
وعزف كرم عن إفادته في أن الأرقام المشبوهة كانت بغرض التواصل مع مشغله الإسرائيلي، مصححاً: «كنت أتواصل مع شخص اسمه جو حداد»، فطلب منه قاضي التحقيق أن يزوده بأي معلومة عن مكان حداد لاستدعائه، «وبذلك نثبت أنك بريء»، لكن النتيجة كانت صفرا: كرم لا يعرف أي معلومة عن شخص كان يتواصل معه من خلال خط خلوي نمساوي خاص! وبعدما أقر كرم، في التحقيقات الأولية، أنه من أرسل رسالة نصية إلى مشغله الإسرائيلي، يطلب منه مشاهدته على قناة «المنار»، في 23 آذار العام 2006، عدّل كرم في إفادته أمام القضاء قائلاً: «سكرتيرتي م.م. هي من أرسلت الرسالة». لكن تحقيقات «شعبة المعلومات» توصّلت إلى أن م. بدأت عملها عند كرم في نهاية العام 2008، أي بعد مرور عامين على إرسال الرسالة!
استمرت الجلسات القضائية، إلى أن صادقت المحكمة العسكرية، في كانون الثاني الماضي، على قرار محكمة التمييز العسكرية، في محاكمة كرم وفق المادة 278 من قانون العقوبات، فيما كان متوقعاً أن تعترض النيابة العامة على الحكم المخفف.
تنصّ المادة 278 على أن «كل لبناني قدم مسكناً أو طعاماً لجندي من جنود الأعداء يعمل للاستكشاف، أو لعميل من عملاء الأعداء، أو أجرى اتصالاً مع أحد هؤلاء الجواسيس أو العملاء، وهو على بيّنة من أمره، يُعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة (من 3 إلى 15 عاماً)».
و«نجــح» فريـــق الدفاع عن كرم، بخـــفض الحكم إلى عامين لأسباب صحية، علماً بأن وضعه الصحي، لا يُقارن بالأوضاع الصحية المزرية في سجن «رومية».

تحية من «إسرائيل»

بعد نحو عام على توقيف كرم، نشر الموقع الالكتروني «لبنانيون في إسرائيل»، رسالة بعنوان: «العميد فايز كرم: خانوك وسلمّوكَ.. اطمئن إنك الشامخ شموخ أرض لبنان، وهم حفنة من الكذبة وتجّار قضية».
بدا كاتب الرسالة تلك متعاطفاً مع كرم. يقول: «من المؤسف، بعد مرور 13 شهرًا من الاعتقال التعسفي، والوعود المعسولة والكلام المُجحف بحقك، قضت محكمتهم المأمورة بإصدار حكمها الجائر بحق أنبل وأشرف مناضل وضابط سابق في الجيش اللبناني».
وبعد خوض الكاتب نقاشاً مطولاً، حول رأيه في «التحقيقات المشبوهة لشعبة المعلومات»، يقول: «بات وضعك يا سيّدي العميد (فايز كرم) يشبه وضع أهلنا الذين لجأوا إلى دولة إسرائيل، عقب الانسحاب الأحادي، وباتوا منسيين يُحاكمون جزافاً، لأنهم قاوموا ودافعوا عن الأرض».
  

السابق
جدران مدرسة جون تتفكك… والأهالي يطالبون «التربية» ببناء جديد
التالي
سيرّا رعى اجتماع الناقورة وزار بنت جبيل