الاتجار بأطفال الشوارع !!

كانت «سمر» (اسم مستعار) في العاشرة من عمرها عندما زوّجها والدها برجل مسن مقابل مبلغ من المال. الزوج المفترض نفسه قام بتشغيل الطفلة في الدعارة. تمكنت «سمر» من الهرب من منزلها عند السادسة من صباح يوم من أيام العام 2005، ولجأت إلى اقرب مخفر. قام رجال الأمن بتسليمها إلى اتحاد حماية الأحداث في لبنان حيث أودعت في مركز مختص لحمايتها.
علم القيمون على الاتحاد من «سمر» بتفكك أسرتها ومعاناة شقيقها «علي» (اسم مستعار)، ابن الثماني سنوات. عثرت العاملات الاجتماعيات على «علي» عند فجر أحد الأيام في احد مقاهي الإنترنت، فوضع في مركز لحمايته، أيضا.
تصف مديرة مكتب الاتحاد في جبل لبنان رولا لبّس نتائج متابعة هذه الحالة الاجتماعية بـ«السلبية». إذ تمكن «عم سمر» من اختطافها والاعتداء عليها مع زوج عمتها، ثم السفر بها إلى الأردن حيث يقوم بتشغيلها بالدعارة، فيما توفي الصغير «علي» في المركز الداخلي إثر ضربة تلقاها على رأسه.
روت لبّس قصة «علي» و«سمر»، ضمن قصص مؤثرة أخرى، أمس خلال ورشة عمل «مكافحة الإتجار بالأطفال» التي نظمها «المجلس الأعلى للطفولة» و«مؤسسة الرؤيا العالمية»، بالتعاون مع «اليونيسف».
وبيّنت الورشة، عبر مداخلات الجمعيات الأهلية العاملة مع الأطفال، حدوث عشرات الحالات من الاتجار بالأطفال في لبنان سنوياً، وتحديداً عبر تشغيلهم بالدعارة واستغلالهم جنسياً وبيعهم وبيع أعضائهم. حالات لم يكن القانون اللبناني يصنّفها إتجاراً، بل يضعها في خانة الحالات التي تحتاج إلى «حماية قضائية»، وفق المادة 25 من قانون حماية الأحداث الرقم 422. وبذلك جاءت ارقام وزارة الداخلية التي عرضها رئيس «مكتب الآداب» المقدم ايلي الأسمر، بعيدة من معطيات المجتمع المدني، وبالطبع أقل منها. يومها، لم يكن مجلس النواب اقرّ قانون «الإتجار بالبشر» الذي صوّت عليه في آب الماضي نتيجة الضغوط الدولية، على الرغم من شوائبه الكثيرة.
ولعل اهمية الورشة، بالرغم من فظاعة الحالات التي عرضت خلالها، برزت في توعية الجمعيات والمنظمات على «الإتجار بالأطفال» الذي بدا للبعض مفهوماً جديداً، وتحديداً، كيفية تصنيف الحالات، وما إذا كانت انتهاكاً لحقوق الطفل أو إتجاراً به، وهو ما اعترف به ممثلو اكثر من جمعية.

ويمكن رصد نقطة «إيجابية» أخرى خلال الورشة تمثلت في تضمين وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور كلمته بعض الملاحظات النقدية حول خطة وزارته بالتعاون مع وزارتي العدل والداخلية «لمكافحة ظاهرة الأطفال في الشوارع». صحيح أن أبو فاعور لم يعلن صراحة إخفاق الخطة، والدليل وجود عشرات الأطفال على الطرقات اليوم، ولكنه أشار إلى أن «مافيات تشغيلهم تحايلت على القانون، وبات الأطفال يبيعون سلعاً في الطرق على بعد امتار من الشرطي».
ويكتسب تلميح أبو فاعور اهمية لدى ربطه بعنوان الورشة، فكيف لدولة عجزت عن «لملمة» بعض الأطفال من شوارعها، وليس معالجة مسببات المشكلة كما يجب، أن تتصدى لمكافحة الإتجار بالأطفال على أراضيها؟
يشار إلى أن وجود الطفل في الشارع يشكل «اللبنة» الأولى في حالات كثيرة، لجريمة الإتجار به، ويكفي أن نشير إلى أن دراسة «الرؤيا العالمية»، التي عرضت أمس، أشارت إلى عثور إحدى الجمعيات على مبلغ ألف دولار مع أحد أطفال الشوارع، ليتبين أنها ناتجة من تشغيله في الدعارة.

ولكن التناقض في «النيات»، إن سلمنا بجديتها، مع قدرات وإمكانات وزارة الشؤون ومعها «المجلس الأعلى للطفولة» الذي يرأسه أبو فاعور، لم يكن وحده ثغرة ورشة أمس، على جديتها. فقد تم «حشر» جلسات الورشة بين الساعة التاسعة والنصف صباحاً والواحدة ظهراً، بالرغم من اهمية المواضيع المطروحة وجدية قضية الإتجار بالأطفال الذي يحكى عنه للمرة الأولى بشكل موثق. وعليه، لم يتسع الوقت لممثلي الجمعيات الأهلية للحديث بـ«راحة» عن تجاربهم، وخصوصاً العوائق التي تصادفهم في مسألة «تصنيف الحالات، والتناقض الناتج من عدم التنسيق بين الأجهزة حيناً، وتضارب الصلاحيات حيناً أخر».
فموظفو «الاتحاد لحماية الأحداث» مثلاً، ومن دون الدخول الآن في قراءة نقدية لدوره وكيفية تعاطيه مع قضية الأحداث نفسها، لم يقبضوا رواتبهم منذ سبعة اشهر، وبدل النقل منذ سنتين. علماً أن الاتحاد كجمعية حصرية لمرافقة الأحداث في المخافر والمحاكم في كل لبنان، لا يضم سوى 18 عاملة اجتماعية، وهو تابع لوزارة العدل وليس لـ«الشؤون»، «أم الصبي».
وبينت مداخلة المدعي العام الاستئنافي في بيروت القاضي سامر يونس «توزيعاً» آخر في الصلاحيات بين وزارتي العدل والشؤون. إذ منح قانون الإتجار بالبشر صلاحية عقد الاتفاقيات مع الجمعيات التي تهتم بضحايا الإتجار لوزارة العدل وليس للشؤون التي تتولى العقود مع المجتمع المدني الرعائية منها والحمائية وتلك المشتركة.
وتساءل يونس إذا كان «قانون الإتجار بالبشر يوفر الحماية اللازمة للضحية، بعدما نص على معاقبة مرتكب جريمتها؟»، لاسيما أن «كشف المجرمين يتوقف غالباً على تعاون الضحية وتجاوبها وشجاعتها في مواجهة جلادها، وفضح أمره»، وفق يونس نفسه.

وعليه، رأى يونس أن «أحكامه تعطي تعريفاً غامضاً للضحية، وأنه ينص على اجراءات محدودة مخصصة لحماية الشهود دون الضحية، راشدة كانت أم قاصرة»، علماً أن لبنان صدّق منذ العام 1990 على اتفاقية حقوق الطفل من دون تحفظ.
واشار يونس إلى اقتصار مساعدة الضحية، وفق القانون عينه، على إعفاء المجني عليه من العقاب إذا ثبت ارغامه على ارتكاب جرم ما، او على مخالفة نظام الإقامة، مع منح وزارة العدل صلاحية عقد اتفاقات مع جمعيات تهتم بالضحايا وايداع المبالغ المتأتية عن معقابة مرتكب جريمة الإتجار، في صندوق يعود لوزارة الشؤون لمساعدة ضحاياها.
واكد يونس، من موقع الخبير في القضاء، أن «الإجراءات والتدابير هذه تبقى قاصرة عن أداء وظيفتها، ما لم تقترن بنظام قانوني متكامل يسمح بالتعرف إلى الضحية وفق معايير محددة، ويؤمن لها الحماية القانونية والمساعدة المعنوية والنفسية والجسدية، وليس المادية فحسب، منذ بدء التحقيقات وحتى صدور الحكم». واشار إلى ان القانون «اغفل هذا الأمر، مما يشكل اخلالاً في التوازن بين شقه العقابي وبعده الحمائي الذي اتى مبتوراً وناقصاً».
ودعا يونس إلى المطالبة بتعديل القانون ولكن «ليس الآن، بل لنبدأ بتطبيقه ولنضع سلة تعديلات متكاملة مستندة إلى التجربة العملية». واشار إلى ان قانون حماية الأحداث المطبق حالياً يمكن ان يشكل أداة تسد هذا النقص في إنتظار تصحيح الموجود.
وقدمت مسؤولة الجندرة والمناصرة في «الرؤيا العالمية» كارلا لويس، نتائج وتوصيات الدراسة الأولية التي انجزتها المؤسسة عن «الإتجار بالأطفال في لبنان»، مؤكدة أن البعض قال قبل الدراسة أن «لا اتجار بالأطفال في لبنان»، وهو ما اثبتته المعطيات البيانية عكسه.

وصحيح ان الدراسة لم تخرج بنسب وأرقام دقيقة، وإن فريق العمل تعاون مع المجتمع المدني من دون الدوائر الرسمية المختصة، إلا أن اهميتها تكمن في وضع «القطار على السكة»، وبما يؤسس لاعتراف رسمي ومدني بوقوع جرائم اتجار بالأطفال في لبنان، وضرورة وضع سياسة جدية رسمية لمكافحتها.
وحددت لويس مظاهر الإتجار بالأطفال عبر العمالة التي تتضمن التسول القسري والمشاركة القسرية في النشاطات الجرمية (دعارة واستغلال جنسي وغيرها..) والإتجار بالأطفال وبيع الرضع، وبعض ما ينتج من التزويج المبكر. وحصلت لويس على الحالات من الجمعيات العاملة مع الأطفال وعبر مقابلة نحو عشرين طفلاً وطفلة تعرضوا للإتجار.

ولعل البارز في الدراسة أيضاً أن المتاجرين بالأطفال هم في حالات كثيرة اقرباؤهم من الذكور بالدرجة الأولى: اب واشقاء كبار وازواج واعمام واخوال..
وشملت الورشة مداخلات لوزارت الداخلية والعمل والشؤون ولممثلين عن «اتحاد حماية الأحداث» و«دار الأمل» و«دار الطفل اللبناني» و«اليونيسيف». ووعد الأمين العام لـ«المجلس الأعلى للطفولة» ايلي ميخايل بـ«جمع المعطيات والتوصيات والوقائع لوضع خطة جدية مع الأطراف الرسمية والأهلية المدنية للبدء بمكافحة الظاهرة والحد من تفشيها».

السابق
ميقاتي: هـل قررت الاعتزال؟
التالي
عيتاني: لعدم جعل دار الفتوى مسرحا للتجاذبات