كيف تحولت سوريا من لاعب إلى ملعب؟

"أفضل حماية للناس هو ألا يصدقوا كل ما يسمعونه من الآخرين" (ديموستين)

ماذا لنا أن نتوقع من «قمة بغداد» العربية؟ سؤال بديهي وسط الأوضاع العامة في المنطقة، وفي سوريا بالذات.

إذا كان لنا أن نراجع ما تمخضت عنه القمم العربية الأخيرة – على الأقل – تفرض علينا الذاكرة التحلي بشيء من الواقعية وخفض مستوى التفاؤل.

وإذا رصدنا مستوى أداء الأمانة العامة للجامعة تحت قيادة الدكتور نبيل العربي، لتوجب علينا استبعاد التوصل إلى أي تسوية حقيقية تتعامل بنجاعة وحزم مع أزمة بخطورة الأزمة السورية، والاختراقات الإيرانية إقليميا… وهي اختراقات تستفيد مباشرة من تواطؤ واشنطن والمجتمع الدولي مع مخطط القضم والهضم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ثم إذا تلفّتنا يسرة ويمنة إلى «الحالة العربية» العامة إزاء ما هو حاصل، سواء في كيانات عربية «محتلة» فعليا، أو كيانات قلقة من خطر التطويق والتحرش، أو كيانات خارجة للتو من «ربيع» بلا زهر حتى الآن، يتضح لنا كم ما زال العقل السياسي عاجزا أمام آفات المراهقة السياسية والمزايدات والنفاق وتقبل التدجين والانهزامية.
«قمة بغداد 2012» تأتي أمام الخلفيات التالية:

1) العراق، البلد المستضيف، يعاني من معضلة حقيقية؛ إذ يطالب رئيس الوزراء نوري المالكي قيادة «الحكم الذاتي» في إقليم كردستان بتسليمه نائبه طارق الهاشمي اللاجئ إلى الإقليم، وذلك تمهيدا لمحاكمته بتهمة تتعلق بتورطه بالإرهاب! وهنا يجب أن نتذكر أن استقلال القضاء العراقي اليوم، في خضم الطائفية والفوضى الأمنية والحقد المرير… موضع شك كبير.

2) واستطرادا، تقوم السلطة العراقية الحالية برئاسة الرئيس نوري المالكي على تحالف طائفي صريح أسسته ورعته إيران. وبعض أطراف هذا التحالف، كما يشك كثيرون، متورطة ميدانيا في ما تشهده سوريا من قمع دموي يهدد باندلاع حرب أهلية شاملة.

3) يأتي القادة العرب – أو من سيمثلهم – إلى القمة في ظل «خيارين شمشونيين» اتخذهما نظام بشار الأسد في دمشق والقيادة «القيصرية الجديدة» في موسكو. فلا الأسد في وارد غسل يديه من دماء عشرات الألوف من السوريين، ولا «قياصرة روسيا الجدد» قادرون على التراجع بعدما أحرقوا تقريبا كل سفن الثقة التي كانوا يتمتعون بها… على امتداد الشارع الإسلامي على مستوى العالم، وخاصة بعدما أيدوا اعتماد دمشق مبادئ «حلهم الشيشاني» في مدن سوريا وأريافها، وأعلنوا تحمسهم لـ«حماية مسيحيي الشرق» من «حكم المسلمين»!

– مبادرات خجولة اتخذتها جامعة دول عربية عاجزة، ما كانت تحتاج كي تكتمل صورة عجزها إلا إلى مجلس أمن معطل بفعل «الفيتو» الروسي – الصيني المزدوج، ومواقف أميركية مُلتبسة تنبع من قيادة مترددة في سنة انتخابية… ومن التزام برؤية إسرائيلية تقوم وجوديا على رفض مبدأ حق الإنسان العربي في حياة حرة كريمة.
– زيارة الموفد الدولي – العربي كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، إلى موسكو في مستهل جولة تحريك وتفعيل للمبادرة العربية وتصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهذه زيارة استبقتها موسكو بصب ماء بارد عليها، متوقعة فشلها سلفا، ومجددة شروطها المألوفة التي تربط حرية الشعب السوري بضمانات لقامعيه وسجانيه، وتساوي بين القتيل والقاتل.

– بدء العد العكسي لمؤتمر «أصدقاء سوريا» الثاني في تركيا، وهو مؤتمر عليه التزامات ما عاد بالإمكان تأجيلها، بينما يمارس بشار الأسد سياسة «الأرض المحروقة». في هذه الممارسة الدموية ينسى أو يتناسى أن أولئك الأبرياء الذين يُقتَلون ويُشرَّدون ويُنكّل بهم على أيدي «الشبيحة» وعسكر جيش ما عاد يحظى بإجماع وطني… إنما هم أبناء الشعب الذين يُفترض أن يكون قسم اليمين لأي رئيس سوري حمايتهم والدفاع عنهم.

حقيقة الأمر أن كل ما نراه ونسمعه من كلام واتصالات وزيارات لن يقدم أو يؤخر، وهو يندرج عمليا في ملء فراغ ما… بينما يفرض الواقع نفسه.

النظام السوري أصلا، بحكم تركيبته وكيميائه، يستحيل أن يتصرف بغير الطريقة التي يعرفها وألفها، والتي تعلمها من ممارسات مؤسسيه منذ 42 سنة. إنه لا يفهم غير ما تلقنه وجرّبه وسار عليه لعقود، وهو يدرك أن أمامه خيارين لا ثالث لهما: إما الهيمنة على مقدرات سوريا كلها بالقوة، أو اللجوء إلى ملاذ آمن عندما تحول الظروف الموضوعية دون مواصلة مشروع الهيمنة.

وهنا لا بد من الاعتراف بأن سوريا نجحت لفترة لا بأس بها في أن تكون «لاعبا» فاعلا ومؤثرا في محيطها. وأفلحت في ذلك بمزيج من المزايدة القومية والوطنية – والعلمانية أيضا (!) – وزرع الفرقة واستنهاض الحساسيات الفئوية واستغلالها في الكيانات المجاورة، وبالتالي، تصدير مشكلاتها الداخلية إلى كيانات الجوار.
لبضعة عقود كانت سوريا في عهد حافظ الأسد «لاعبا»، ولكن هذا الوضع تغير.. فصارت اليوم «ملعبا».

بدأ الوضع يتغير مع تراخي قبضة الأسد الأب الممسكة بالزمام تحت صدمة وفاة «ولي عهده» وابنه البكر باسل الأسد، ثم التحول الذي حدث في تركيبة النظام الإيراني، وهو تحول أسهم في انهيار «التوازن» الذي احتفظ به الأسد الأب في علاقاته التحالفية مع إيران.

ومن ثم تسارع التغير مع «وراثة» بشار الأسد السلطة، ولا سيما أنه أغفل أهمية احتفاظ دمشق بشيء من حرية الحركة في العلاقة الاستراتيجية الثنائية مع طهران. وترجم هذا التغير في قطع نظام الأسد الابن «شعرة معاوية» ليس فقط مع المحيط العربي ككل – ولنسمّ الأمور بأسمائها، مع الإسلام السياسي العربي السني – بل قطعها أيضا مع وجوه السنية السياسية الفاعلة داخل النظام السوري نفسه. وهذا ما تجلى تباعا في «انتحار» رئيس الحكومة السابق محمود الزعبي، وإبعاد أو ابتعاد رئيس أركان الجيش السابق حكمت الشهابي، ثم نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية السابق عبد الحكيم خدام.

إن قيادة تخلت عن أولويات سياسية حصيفة كانت لفترة غير قصيرة حصانة للنظام، كان لا بد أن تحاول معالجة أخطائها بأخطاء أخطر وأدهى في الداخل والخارج؛ فبعد 12 سنة من «الإصلاح اللفظي»، ارتكبت الأخطاء القاتلة في لبنان وصولا إلى اغتيال رفيق الحريري وما تلاه، وتدمير علاقات التفاهم والتفهُّم مع معظم الدول العربية، وبالأخص دول الخليج.

وحقا، ها نحن نشهد اليوم تداعيات هذه الأخطاء وعواقبها الكارثية.

مدن وقرى مدمرة، أحقاد ومخاوف طائفية وفئوية قد لا يكون من السهل أن تطوى وتدفن، أزمة لجوء متفاقمة تتوقع الجهات الدولية أن تتمخض عن ربع مليون لاجئ، حصار اقتصادي خانق، واضطرار نظام الأسد الابن للاعتماد بشكل كامل تقريبا على «دعم دولي».. لإنقاذه مما يدعي أنه «تدخل دولي».

بعد كل هذا… أيجوز استمرار الكلام عن «لاعب» إقليمي؟

نحن الآن، مع مزيد الأسف أمام «ملعب» بلا حَكَم، اقتلع عشبه الأخضر… تُصفّى فيه الحسابات وتُعقد على أرضه المراهنات القاتلة.

السابق
نقل الأسير ذياب المضرب عن الطعام إلى مستشفى سجن الرملة
التالي
الجوزو: ايران تخطط لاثارة القلاقل في العالم الاسلامي