المجرم واحد.. كيفما قَتَل

لحومٌ حمراء، دجاجٌ وأسماك، ألبانٌ وأجبان، علكةٌ وسكاكر، وحتى حليب الأطفال، وتكرّ سبحة المواد الغذائية الفاسدة، حيث ظهر أخيراً أنها منتشرةٌ في كل مدينة لبنانية لا في بيروت وحدها، لا بل في كل بلدةٍ وقريةٍ ودسكرةٍ، في كل ملحمةٍ و«سوبرماركت» ودكّانٍ، تباع يومياً إلى اللبنانيين، وكأن حيواتهم رخيصة إلى هذا الحدّ، أو ربما أصبحوا «برغشاً» حُلّل قتلهم بالسموم.

مسكين هو شعب لبنان، مسكينٌ ومدانٌ في الوقت ذاته، مسكينٌ لأنه الضحية الكبرى كونه يعيش ضمن هذه الكيلومترات التي يبلغ عددها 10452، ومدانٌ لأنه صامتٌ خانعٌ، وساكتٌ عن حقّه، ومتلهٍّ بلعبةٍ جهنمية أدمن عليها، ألا وهي لعبة الطائفية والمذهبية، حيث تجده ينزل بالآلاف لا بل بمئاتها، متى دُقّ ناقوس «يا غيرة الدِّين»، أما عندما تلتهب حياته فقراً، فلا تجد أحداً يحرّك «غيرة الدّيْن».

يعلم هذا الشعب تماماً أن الفساد في كل أشكاله وصنوفه مستشرٍِ في لبنان، وأن الدولة غارقة فيه حتى أذنيها، لا بل يعلم قسم كبيرٌ منه أن هذا الفساد وُلِد مع الصرخة الأولى التي أطلقها «الجنين لبنان» حين خروجه من رحم «سايكس ـ بيكو»، كيف لا، وهذا الـ«لبنان» قام على أساس المحاصصة الطائفية، والاقطاعية، وكرّس «حقوق» الطوائف، عفواً، الطائفيين، كما كرّس توريثاتٍ إقطاعية، تحكمت فيه، وبمقدراته، وثرواته، ولا عجب أن يكون لهؤلاء الطائفيين والإقطاعيين، «رعايا» يتحركون كالدمى تحت شعار غيرة الطائفة أو العائلة والعشيرة.

ولا عجب أيضاً، أن تقوم الدنيا ولا تقعد، في وجه كل ثورةٍ حقّة، تطالب بكسر هذا الفساد، وبحقوق الشعب، كل الشعب بالحياة الكريمة والتطوّر والتقدّم، فيُلاحق الأبطال، ويٌقتَلون ويُغتالون، كل ذلك دفاعاً عن مكاسب الفئات من طوائف ومذاهب وإقطاع، وعندما يبلغ الفساد حدوداً قصوى، ويقرص الفقر والجوع أبدان البشر، تنهال «الرحمات» على الثوار والشهداء، فيصح قول الزعيم سعاده هنا: «إن الأمم الغبية تفعل بأبطالها ما يفعله الأطفال بألعابهم، تحطّمهم ثم تبكي طالبةً غيرهم».

وإذا كان الفساد مستشرياً في لبنان منذ قيامه، فإن دائرة الفساد أخذت تتّسع أكثر فأكثر حتى أصبحت مقوننة بعد اتفاق الطائف، حيث سادت التسويات، تسوياتٌ في سنّ القوانين، تسوياتٌ في إصدار الأحكام القضائية، وتسوياتٌ في القوانين الانتخابية التي لا تنتج إلا الوجوه ذاتها، والحكومات ذاتها، والمصائب ذاتها. فارتفع راشٍ ووراءه مرتشٍ، ودهس شعبٌ. وعلا شأن مفسدٍ ومعه فاسدٌ وهضمت حقوق شعبٍ، ويعلن سياسيٌ من هنا أن «البلد ماشي» فيتضح أنه فعلاً يمشي، إنما على جثث اللبنانيين.

أما الدليل فأصبح واضحاً للعيان، وظاهراً كالغيوم النفناف في نهارٍ صيفيّ مشمس. من من اللبنانيين لا يذكر كم كان الدين العام في لبنان قبل سنة 1993؟ حتماً كل مواطنٍ لبناني عايش تلك الفترة، يذكر أن الدين العام لم يبلغ أكثر من ثلاثة مليارات ليرة حتى ذلك التاريخ. أما اليوم، وبعد أقل من عشرين عاماً، تخطّى هذا الدين عتبة المليارات الستين، اللهمّ هذا المعلن عنه وغير المختبئ في الكواليس.

أما السبب، فليس الإعمار ولا الإنماء، وهذه الحيلة لم تعد تنطلي على اللبنانيين الذين لم يشاهدوا لا إعمار حقيقياً ولا حتى إنماءً، وواقع الزراعة والصناعة والسياحة خير شهيد على ما نقول.

وربما كا يُقصَد بالإعمار ما حصل في وسط بيروت، عفواً، فهنا صلب الفساد وروحه، إذ أن هذا الوسط، مع كل تاريخه وآثاره، وغناه وقيمه، بيع إلى شخصٍ واحدٍ تحت اسم «سوليدير»، التي عاثت فساداً وذبحاً في تاريخ تلك المنطقة، أما التسويات، فتحضر أيضاً هنا في عدم نبش ملف هذه الشركة.

وبالعودة إلى الفساد الطارئ، أو بالأحرى الذي أعلن عنه في الآونة الأخيرة، ليس كرمى لعيون المواطن اللبناني، بل، وعلى ذمّة الإعلام، لأن إحداهن من الطبقة السياسية الحاكمة كانت تسمّمت في إحدى حفلات العشاء التي لا يدعى إليها المواطن اللبناني العادي، فلولا تلك الحادثة، لما خرجت هذه القضية البالغة الحيوية إلى العلن.

وإذ نطمئن اللبنانيين إلى صحّة المسؤولة الكبيرة وسلامتها، فإن الأخبار التي تطالع اللبنانيين يومياً عن «كبسةٍ» على مستودعٍ هنا، والعثور على لحومٍ أو مواد غذائية منتهية الصلاحية هناك، أو ضبط كميّات منها تهرّب إلى الداخل اللبناني، أو «انتفاضات» في الدوريات على المتاجر والدكاكين والملاحم والمطاعم، تسارع إليها البلديات والقوى الأمنية، تلك الأخبار تطرح جملةً من علامات الاستفهام، فأين كانت الدولة إزاء كل ما كان يجري في الخفاء؟ وهل كان يجري في الخفاء عن أعينها حقاً؟ وأين كان موظّفو مصلحة حماية المستهلك؟ وماذا كانوا يفعلون منذ سنواتٍ تصل إلى العشرين؟ وهل ثمّة قانون في الجمارك يحدّد صلاحية المواد الغذائية المستوردة؟ وهل يعمل بهذا القانون؟

أما علامة الاستفهام الكبيرة فهي حول القضاء، خصوصاً بعد تصريحٍ أدلى به وزير الزراعة حسين الحاج حسن خلال أحد البرامج الحوارية، عندما تطرّق إلى عدم محاكمة المتورّطين في قضية باخرة القمح العفن الفاسد التي ضبطت في مرفأ بيروت منذ أشهر عديدة، فهل ثمّة تسوياتٍ تكبّل القضاء اللبناني، الذي من الطبيعي جدّاً أن يكون منفصلاً عن السياسة؟

من هنا، وإزاء كل حالات التسمّم التي حدثت سابقاً وطمست قضاياها، خصوصاً في عكار والجنوب والبقاع الغربي، وإزاء كل الفضائح التي تتصدّر أخبارها الصحافة اللبنانية يومياً، وبعد أن وصل الفساد إلى حليب الأطفال، وجب على الدولة اللبنانية، أن تمضي في هذا الملف وعلى الملأ، لأن حياة المواطنين ليست لعبةً، ولا مدعاةً لجمع الثروات.

ألا ينبغي بمن أوجد قانوناً أن يعمل على تطبيقه؟ هل من حقّ المواطن اللبناني، أن يطالب السلطة التشريعية التي ينتخبها كل أربع سنوات، بقانونٍ يجيز إنزال أقصى العقوبات بمن يتاجر بحياته؟ بمن يقتل أطفاله ، بدءاً من سحب ترخيص المتجر أو المؤسّسة، وصولاً إلى الإعدام، أكان المجرم تاجراً أو سياسياً غطّى اقترافاته وفساده بغية الثراء غير المشروع حكماً؟

هل سيخطو لبنان هذه الخطوة الجريئة، ويعتمد القانون والقضاء لمحاسبة الكبار الخفيين، والتجّار الظاهرين على ارتكابهم كل هذه الفظائع؟ هل يمكن للبنان أن يجرؤ على وضع الخطوة الأولى في درب الألف ميل في الإصلاح السياسي؟ ربما نعم، وربما لا، والـ«لا» هنا أقوى من الـ«نعم»، لأن الماضي اللبناني غنيٌّ بالتسويات التي تطمس الجرائم.

ختاماً، إذا كان العملاء مع العدو «الإسرائيلي» يشكّلون خطراً كبيراً على أمن البلد القومي، فإن الفاسدين والمفسدين لا يقلّون شأناً في الإجرام عمّن باعوا وطنهم بدراهم من فضّة، فالدراهم دراهم، والفضّة لا تصير «تنكاً»، والضحية واحدة هي الشعب اللبناني، والمجرم واحدٌ… كيفما قَتَل.

  

السابق
سؤال للإسلاميّين ومن يتعدّاهم
التالي
هل إيران اليوم مثل يحتذى؟