لبنانيون يخرقون الصمت

هل يحتاج جيل اليوم إلى نبش تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية عبر مساءلة الأشخاص الذين عايشوا لحظاتها المدمّرة وعانوا آثارها وانعكاساتها على حياتهم اليومية؟ وفق القول الشعبيّ في لبنان فإنّ الحرب يجب أن «تنذكر وما تنعاد»، وإعادة ذكرها هو للاتعاظ والتعلّم من أخطاء الماضي لا لإلقاء المسؤوليات فقط. ووفق هذا المبدأ سار المركز الدولي للعدالة الانتقالية بالتعاون مع «أمم» للتوثيق والأبحاث وجامعة القديس يوسف (وحدة الذاكرة في مركز دراسات العالم العربي المعاصر) في مخطّط إطلاق موقع إلكترونيّ نموذجيّ وغير مألوف تحت عنوان «بدنا نعرف» أو www.badnanaaref.org، وهو جزء من مشروع نموذجيّ يموّله الاتحاد الأوروبي وسفارة سويسرا في لبنان بعنوان «حوار الأجيال حول يوميات الحرب اللبنانية». إلا أنّ المميّز في هذا الموقع ليس فكرته فحسب إنما المشاركة الشبابية المكثّفة لإنجاحه، إذ يقوم الموقع بتوثيق أكثر من 100 مقابلة سجّلها تلامذة 12 مدرسة من الصفّ الثانويّ الأول مع الكثير من الأشخاص الذين شعروا بظلم الحرب وتأثيرها المأسوي في حياتهم. وفي حفلة إطلاق الموقع كان العنصر الشبابيّ هو الطاغي بكلّ زخمه وعطشه للمعرفة. وعلى رغم أنّ المشاركين ما زالوا طلّاباً مدرسيين فهم يعرفون ماذا يريدون ولم يتردّدوا في أن يُعبّروا عن رغبتهم في كشف الكثير من خبايا الحرب الأهلية لكي لا يعيدوا الأخطاء هم أيضاً.

مخزون الذاكرة الجماعية

عند رؤية عشرات الشباب المندفعين نحو اكتشاف الحقائق وإلغاء الأفكار المسبقة التي تشرّبوها من أهلهم، لا يعود تعبير «بدنا نعرف» مجرّد شعار أو اسم تمّ اختياره للموقع الإلكترونيّ الأول من نوعه في لبنان، إنما هو صرخة حقيقية تكشف عن وجود الكثير من التساؤلات لدى الشباب من دون التوصّل إلى أي أجوبة. ولم يكن صدفة أنّ الموقع الإلكترونيّ تمّ إطلاقه في الفترة نفسها التي يُفتح النقاش في شكل حاد حول كتاب التاريخ اللبناني، فـ «بدنا نعرف» هو أشبه بوثيقة تاريخية شفوية فيما يطول الجدل حول طريقة التطرّق إلى الحرب الأهلية في كتاب موحّد لكلّ اللبنانيين. وتلفت منسّقة برنامج لبنان لدى المركز الدولي للعدالة الانتقالية كارمن أبو جودة، إلى أنّ الموقع يسعى تحديداً إلى إظهار المعاناة الإنسانية والاجتماعية من خلال شهادات مباشرة من المواطنين الذين عانوا الأمرين خلال فترة الحرب الأهلية، وهذا ما يعطيه موقعاً متميّزاً عن الأفلام الوثائقية حول الحرب من الناحية السياسية تحديداً. والهدف الأساس، وفق أبو جودة، هو إطلاق الحوار بين المراهقين الذين ولدوا بعد الحروب المتتالية التي شهدها لبنان وبين أهلهم في شأن تلك المرحلة التي مزّقت النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي والعائلي لآبائهم وأجدادهم. ولم يؤد التلاميذ المهمّة المطلوبة منهم في شكل مستقلّ، إنما كان الدعم مباشراً لهم من أساتذتهم. وتشدّد أستاذة مادة التربية المدنية والتنشئة المدنية أولغا فرحات، على أنّ التلاميذ كانت لديهم رغبة كبيرة في معرفة تاريخ لبنان خصوصاً في ما يرتبط بحقبة الحرب الأهلية، وتولي فرحات الأهمية الكبرى لهذا المشروع بما أنّه يساهم في عدم تكرار الماضي «الذي ما زالت مآسيه متربّصة في ذاكرة الكثيرين». كما يوضح أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا والتربية عاطف عيد، أنّ الموقع يمثّل المحاولة الأولى لأرشفة الحرب اللبنانية وتوثيقها بالمعلومات والصور، بما أنّ الأخبار والحوادث لا تزال ضمن مخزون الذاكرة الجماعية من دون تحريف أو خلل.

وعي طالبي بآثار الحرب

إلا أنّ إظهار القيمة الحقيقية لموقع «بدنا نعرف» يبقى مرتبطاً بالتلاميذ تحديداً ومدى استفادتهم من المشروع، وفي هذا المجال تشير الطالبة ستيفاني مراد إلى أنّ حوارها مع النّاس أمدّها بمعرفة كبيرة حول الحرب الأهلية واكتشفت أيضاً الأفكار الكثيرة التي فتكت بلبنان ما يساعدها ورفاقها على تجنّبها كي لا يتكرّر العنف. أمّا الطالب ناريج دجيرجيان فيشبّه تجربته في المشروع بدخوله إلى عالم جديد تماماً ما زاد معرفته تجاه الكثير من القضايا التي كان يجهلها، ويركّز دجيرجيان على معاناة الطائفة الأرمنية في الحرب إذ تسلّحت بثلاث صفات رئيسة: النضال، القوّة والأمل. ويُعبّر الطالب مارون صابر عن نضوج واضح ووعي بآثار الحرب المدمّرة بقوله: «من المهمّ أن نعلم من أين نأتي لكي نعلم إلى أين نحن ذاهبون. لذا، شعرت بأنّ هذا البحث سيساعدنا على استيضاح المسائل الحالية».

وكذلك الطالب جورج خليل الذي يؤكد أنّ هناك الكثير من النّاس الذين يحاولون الهروب من أخطائهم، وهذا الخطأ الأكبر لأنّهم يجب أن يواجهوها صورة من موقع «بدنا نعرف» (الحياة).jpg ليستطيعوا تجاوزها. أمّا ما يُجمع عليه الطلّاب المشاركون فهو أنّ هذه التجربة التي شملت حتّى اليوم 12 مدرسة لا بدّ من أن تتسّع أكثر لتشمل مختلف المحافظات، لكي لا تكون الاستفادة محصورة بمنطقة لبنانية دون غيرها. وأكد المركز الدولي للعدالة الانتقالية في هذا السياق أنّ «المشروع تجريبيّ، وفي حال تبيّن أنّه أفضى إلى نتائج مفيدة وكان وقعه إيجابياً على التلاميذ، يمكن المدارس تنفيذه مجدداً». لذا، فإنّ «حوار الأجيال» لن يقف عند حدود موقع «بدنا نعرف» الإلكترونيّ، إنما سيتمّ العمل على تطويره ليصبح مساحة حوار حقيقية بعيداً من الانقسامات العميقة، ليصبح الشباب أقلّ استعداداً لتكرار تجربة اللجوء إلى العنف والدمار لتحقيق أهداف حـــزبية، ويصبحوا محصّنين أكثر ضد التلاعب السياسيّ الذي يُمكن أن يكون لهم بالمرصاد خصوصاً حين يدخلون إلى الجامعات.

السابق
عبود: الحل يكمن بتغيير اسلوب الحكم
التالي
لقاء تنسيقي في بلدية صيدا تحضيراً لسباق أركض من أجل الكرامة