دلالات بيان مجلس الأمن حول سورية

و…. بعد سنة ونيف من المراهنات المتعددة الاتجاهات والمتفاوتة السقوف والمتقاطعة عند حلم "إسقاط النظام السوري وحلم إقامة نظام عميل للغرب، "بلباس إسلامي"… بعد هذه السنة من الأحلام والأوهام وتوسل الإرهاب ضد سورية شعباً وحكماً وبنى تحتية، أصدر مجلس الأمن بياناً يشكل الموقف الدولي الإجماعي الأول من الأزمة السورية، بيان جاء على وهن طبيعته القانونية التي تجعله أقرب الى التمنيات والرغبات بعيداً من القرارات الملزمة، على الرغم من كل ذلك، فإن للبيان بنصه وروحه دلالات هامة تستوحى منه اولاً، وتعزز أكثر، اذا عطفناها على سلسلة المواقف الغربية وتحديداً الأميركية التي صدرت خلال الشهر الأخير الذي سبق البيان، وجاءت على لسان كل من أوباما وكلينتون وفيلتمان، مواقف وبياناً ومساراً غربياً تراجعياً يدل على التالي:

(1) إقرار دولي بأن في سورية جماعات مسلحة تنتهك النظام والأمن العام ولا يوجد هناك ما اسمي "ثورة " أو "ربيع" إنما توجد أعمال عنف وأن على هذه الجماعات أن توقف أعمالها، في الوقت الذي يبقى فيه حمل السلاح وضبط الأمن مسؤولية الدولة، ويترتب على هذا الإقرار وبشكل ضمني رفض المواقف الأجنبية من عرب وترك وغرب التي دعت الى تسليح المعارضة والتدخل العسكري الأجنبي، كما ورفض الإعلام التحريضي ضد الدولة، ورفض كل عمل خارج الإطار السياسي لمعالجة الازمة السورية، الأمر الذي يمكن أن يشكل بداية توافق دولي على حل الازمة السورية حلاً يقوده الحكم في سورية ويدعم من الخارج، كما طرحت سورية في الاصل .

(2)ان أميركا استوعبت أخيراً ان اعتماد سياسة القوة (الصلبة او الناعمة) في مواجهة خصومها أو ما كانت تسميه محور الشر، هي سياسة عقيمة لن تقود الى نتائج تتوخاها إيجابيا، لا بل إن هذه السياسة خاصة في الأزمة السورية أدت الى خسارة استراتيجية أميركية بحجم الكارثة، تمثلت في إعادة روسيا والصين الى المسرح الدولي بصفتهما قطبين رئيسيين فاعلين، وعليها ان تتوقف عنها حتى لا تتفاقم الخسارة، بعد ان باتت على يقين بأن الازمة السورية أفلتت من يدها وان حلها لن يكون على ما تشتهيه بمفردها .

(3)ان مجلس الأمن خرج من القبضة الأميركية وحُكِم بتوازن دولي تملي فيه روسيا والصين ارادتهما بحيث لا يمر الا ما يوافقان عليه بارادة حرة ترعى مصالحهما من غير قهر او ضغط. و ان الغرب بات يعلم هذه الحقيقة، فتراجع رهانه على مجلس الأمن، بعد أن كان يراه أداة تنفيذ للسياسة الاستعمارية الغربية.

(4)ان جبهة العدوان على سورية التي كانت تريد من مجلس الأمن قراراً يكرر التجربة الليبية وكانت تحدد الموعد تلو الموعد لإسقاط النظام، اصطدمت بصخرة الحقيقة السورية والواقع العالمي المتشكل من الرحم السوري، فتكسرت أحلامها وانخفض سقفها وقبلت او لهثت حتى تستحصل على بيان رئاسي (لا قوة الزامية ولا آلية تنفيذية له)، ورغم انه يشكل بذاته نصراً لسورية، فإن تلك الجبهة بدت فرحة بهذا الإنجاز الذي يشبه إنجاز التاجر المفلس الذي وجد قرشاً في جيبه لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يدفع عنه واقع الإفلاس، لا بل إن مجلس الأمن بعد هذا البيان وهذا الإقرار بوجود جماعات مسلحة خارج القانون لا يستطيع ان ينتقد الحكومة السورية على لجوئها للقوة من أجل ضبط الأمن .

(5)اما الأتباع والأدوات التنفيذية للمؤامرة من أعراب وأتراك فلن يجدوا بعد هذا البيان من يصدقهم او يصغي اليهم ويعتقد بقدرتهم على التأثير الجذري في الساحة السورية، وقد لا يكون لديهم من عمل مستقبلي الا السير في أحد خطين :

أ‌. خط عقلاني- أخلاقي وهو ما لم يعتمدوه حتى الآن في سورية ويتمثل بالبحث عن سبل التراجع عن الخطأ وترميم الجسور التي هدموها في المنطقة والتخلي عن التحريض وتمويل الإرهاب .

ب‌. او خط حماقة – إجرامي وهو ما ساروا عليه حتى الآن وتسببوا عبره بالمآسي لسورية ولأنفسهم بالخسارة .

ولأننا لا نراهن على عقلانيتهم وأخلاقيتهم، فإننا نخشى من استمرار حالات الإرهاب التي يدعمونها في سورية لفترة معينة .

6)) اضطرار أميركا للعودة إلى المراهنة على لبنان لنصرة السياسة الأميركية وتعويضها عما خسرته، لبنان الذي تعلم أميركا واقعه وتعلم خريطته الديمغرافية والسياسية وتعلم أنه لن يكون مستجيباً لنصحها ولا محققاً لرهانها. لكن رهان أميركا هذا يعبر عن مدى الإفلاس الأميركي بعد سلسلة الإخفاقات التي منيت بها السياسة الأميركية والتي كانت أقساها هزيمتها في سورية. ومن أجل ذلك، نراها استبقت بيان مجلس الأمن بمواقف لها دلالاتها هي الأخرى كما يلي :

أ‌. ان حديث أميركا عن التخلص من بقايا الاحتلال السوري في لبنان، كما جاء على لسان فيلتمان – يعبر عن اختزان في العقل الأميركي الباطن بأن النيل من النظام السوري ومن رأس النظام ومن موقع سورية الاستراتيجي، بات حلماً من الماضي، لذا يكون من الأفضل لديها ان تتحدث عن وسائل تقليص نفوذ النظام السوري خارج سورية، ولذا فهي تطلب من جماعاتها الإنقلابية التي استثمرت في لبنان بعد 2005 التهيؤ للمستقبل وانتظار انتخابات 2013 في لبنان لإعادة سيطرتها. ولهذا عادت أميركا وبعد بيان مجلس الأمن فبلعت مواقفها السابقة التي أسقطت بوقاحة شرعية الرئيس بشار الأسد، عادت الى مخاطبته باعتباره الرئيس الشرعي لسورية لتبلغه " بأنها تنتظر منه تطبيق بيان مجلس الأمن".

ب‌. ان تحديد فيلتمان لانتخابات 2013 موعدا للتغيير في لبنان، هو نوع من إعطاء المهل وطمأنة الفريق اللبناني المُسيَّر أميركياً، بانه لم يُستغنَ عنه بعد وأن هناك رهاناً أميركياً جديداً عليه لتقديم الخدمات للغرب. فأميركا بهذا الموقف تحاول تحشيده ومنع تفاقم الانهيارات في صفوفه، مع منحه أوسمة مزيفة أو نسبة انتصارات وإنجازات وهمية له يكون من شأنها رفع المعنويات لديه من قبيل اعتبار "جماعات 14 آذار" و"ثورتها المزعومة " أساساً في تفجير الثورات العربية، قافزة فوق حقيقة أكيدة بأنه لم يكن في لبنان ثورة بل كان هناك انقلاب عطل الدستور وأقام حكماً خارجه لمدة 3 سنوات على الأقل، وكذلك لا يوجد في سورية ثورة خاصة بعد أن انقلب الحراك الشعبي الإصلاحي الى حركة إرهابية من أجل مصادرة الإرادة الشعبية وتسليط فئة من الذين دعمتهم المخابرات الأميركية حكاماً على البلاد، ومتناسية أيضاً أن العقلاء يعلمون أن أميركا لا تدعم ثورات الشعوب، بل تعمل على إجهاضها ومحاصرتها كما هو حالها مع الثورة الإسلامية في إيران أو مع ثورة البحرين الإصلاحية، أو تعمل على مصادرتها وتحويرها إن فاجأتها كما هي المحاولات مع حالتي تونس ومصر. نعم ان أميركا لا تدعم إلا الحركات الانقلابية التي تتوسل التزوير والتلفيق والخداع أو القوة والإرهاب والبطش من أجل مصادرة إرادة الشعوب .

ارتكازاً على كل ما تقدم، فإننا وبكل بساطة نستطيع أن نقول إن الأزمة السورية التي بدأت في آذار الماضي 2011، بدأت نهاياتها في آذار الراهن 2012 نهاية لم ولن تكون لتحصل إلا بصمود وثبات سورية ومحورها الإقليمي والجبهة الدولية التي شكلت على إيقاعها، ويبقى على الخاسرين أن يتدبروا أمر خسارتهم

السابق
يعزفان الموسيقى بالخضروات
التالي
ميقاتي: بري يعرف “البير وغطاه” … ولديّ حل للكهرباء