صورٌ من علائم قيام الساعة

لا يزال المشهد اللبنانيّ يضخّ بين الحين والآخر صوراً تنتمي إلى مرحلة غابرة، مرحلة ما قبل الربيع العربي، أي المرحلة الآيلة إلى الانتهاء. صور إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على قرب القيامة اللبنانيّة الجديدة.

قبلَ أيّام، سدّد البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بالمواقف المتمادية في مناهضة الربيع العربي التي يتّخذها، صفعة لموقعه ولموقع الكنيسة وللبنانيّين عموماً، عندما رفض شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيّب اللقاء به عازياً ذلك إلى مواقف الراعي. ويحدثُ ذلك في الفترة التي نجح فيها الإمام الطيّب في تحويل الأزهر من مؤسّسة رسميّة تابعة للدولة إلى موقع دينيّ مرجعيّ، ونجحَ في إصدار ثلاث وثائق تتناول التعاطي الإسلاميّ مع المتغيّرات والتحوّلات العربيّة أجمعَ المطّلعون عليها على أنّها نهضويّة بامتياز. كما يحدثُ للمرّة الأولى أن تضع الكنيسة المارونيّة نفسها في موقع «المرفوض»، وهي المرجعيّة المسيحيّة المشرقيّة الأبرز.

بطبيعة الحال، لن تستعيد هذه السطور مواقف البطريرك الراعي بـ»تفاصيلها المملّة». بيدَ أنّ الحقيقة هي أنّ تلك المواقف لا تعبّر عن هواجس مفهومة بل عن حسابات سياسيّة مغلوطة. ولو كانت المسألة مسألة هواجس بالفعل لكان الأجدى بالبطريرك ملاقاة إمام الأزهر، بل السعي لدى الكرسي الرسولي في الفاتيكان من أجل نوع من القمّة الروحيّة بين الكنيسة والأزهر والنجف (مرجعيّة الشيعة). ذلك أنّ تحوّلات بمثل الجذريّة التي تتّسم بها تستدعي مبادرة روحيّة بهذا المستوى.

تزامُناً، كان مفتي الجمهوريّة الشيخ محمد رشيد قبّاني يقدّم صورة بائسة متكرّرة. فإذا كان البطريرك يعتبر أنّ لديه ذريعةً، هي ذريعة الخوف الأقلّوي، فليس لدى المفتي هكذا ذريعة، من منطلق أنّ البيئة التي يتحرّك ضمنها مندفعة في تأييد الربيع والتغيير. بل إنّ أداء قبّاني أكثر استفزازاً. إذ استقبل سفير النظام السوريّ في بيروت مرّتين، الأولى في اليوم التالي لمجازر حماة، والثانية في اليوم التالي لمجازر حمص.

إنّ موقف هاتين المرجعيتين الدينيتين يتناقض بلا أدنى شكّ مع «القيم» عموماً بما فيها القيم الدينيّة ضدّ الظلم مع المظلوم، ضدّ الاستعباد مع الأحرار، ضدّ الطغيان والبغي مع المؤمنين ألخ… غير أنّ الموقف يتناقض أيضاً مع حسن القراءة السياسيّة ومع حسن الحساب السياسيّ. ذلك أنّ موقف المرجعيتين يوحي وكأنّهما تحسبان أنّ الثورة السوريّة أخمدت وأنّ النظام الديكتاتوري الفاشي في سوريّا «عاد»!!. وكأنّهما يستسلمان أمام الديكتاتور ويسلّمان له وبه في وجه ثورة أخذت تضمّ في صفوفها كلّ الأطياف والطوائف.

وفي السياسة المباشرة، إنّ أكثر من يعبّر عن هذه القراءة المقلوبة هوَ السياسيّ الفاشل ميشال عون… وهو يعبّر عنها بفعل ارتباطه العضويّ بمحور نظامَي دمشق وطهران. وعلى أيّة حال، فإنّ أسباب مهاجمة «الجنرال» لرئيس «حزب القوّات اللبنانيّة» سمير جعجع عديدة، غير أنّ أهمّها أنّ جعجع بمواقفه من الربيع العربي عموماً والربيع السوريّ تحديداً أنقذ «شرف المسيحيّين»، أي أنّه استحضر تاريخ المسيحيّين ليدخلهم بواسطة تاريخهم إلى المستقبل اللبناني – العربي، وليعيدهم إلى دورهم بين مكوّنات الشرق، وفي حمل رسالة لبنان الحضاريّة.

لكن في السياسة المباشرة أيضاً، إنّ ما يفضح سوء التقدير السياسي لدى البطريرك والمفتي، بالإضافة إلى موقفهما العام المناهض لربيع سوريّا، هو بالضبط ما قاله الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله في خطبته الأخيرة الأسبوع الماضي.

في كلّ ما قاله نصرالله وصولاً إلى دعوته إلى «الحلّ السياسيّ» في سوريّا (الحلّ السياسيّ المستحيل طبعاً) ثمّ دعوته إلى «إلقاء متزامن للسلاح» بين النظام والمعارضة، يعترف الأمين العام للحزب بأنّ نظام الأسد انتهى ويقرّ بأنّ سوريّا ذاهبة إلى مرحلة جديدة.

يعرف نصرالله أنّ عليه مقاربة المرحلة بسياسة مختلفة. ويعرف أنّ ذلك ما تفرضه خسارته لحليف استراتيجي. لكنّ «كبرياء» (؟) السيّد يدفعه إلى المكابرة. ولذلك لم يتعوّد بعد على مقاربة الجديد بـ»عدّة» جديدة. ومن هنا لجأ إلى خطّ دفاعه الأساسيّ، لكنّه اخترع لهذه الغاية مقولة «مَن يرَ أنّ في وسعه نزع سلاحنا بالقوّة فليتفضّل»!. فهو يعرف أنّ أحداً لا يريد نزع سلاحه بالقوّة، لكنّه يقدّم صورةً من المرحلة الغابرة أيضاً، صورة الاستكبار. أي إنّ نصرالله الذي يقرأ نهاية نظام الأسد يرفع سقف شروطه. ففي العام 2005 قاد نصرالله بنفسه تظاهرة 8 آذار «شكراً سوريّا» وكان مشروعه وراثة الوصاية السوريّة. أمّا الآن في العام 2012 فهو لا يستطيع أن يحول دون سقوط نظام الأسد ولا أن يعوّض سقوطه في لبنان، ولذلك «خذوا سلاحي بالقوّة إذا كنتم تقدرون»!.

إنّ السطور السابقة وقد استعرضت الصور التي يضخّها المشهد اللبناني، إنّما تهدف إلى القول إنّ تلك الصور إنْ هي إلّا من علائم نهاية مرحلة.. من علائم قيام الساعة.. ساعة المستقبل.  

السابق
حزب الله.. الاسم والمسمى
التالي
من وراء عبوة عين الحلوة والاحتقان الامني-السياسي؟