«الإخوان المسلمون الجُدد في الغرب» … مرونة اجتماعية وسياسية

فجأة وجد الإخوان المسلمون أنفسهم أمام حائط مبكى الغرب للتفجع على بلادهم التي هجّروا منها قسراً بضغط النُخب السلطوية، فأقاموا فيه لسنين طويلة، وبنوا على أراضيه شركات ومؤسسات أسهمت في تعزيز القوة المالية والتنظيمية لجماعة الإخوان، واستفادوا منها في كلّ أرض عربية، أو إسلامية.

تابع لورينزو فيدينو، رصد الإسلام السياسي في الغرب، فبعد أن ألف كتاباً حول «القاعدة» في أوروبا، وضع كتابه «الإخوان المسلمون الجدد في الغرب» الذي تعهد تأليفه ونشر ترجمته العربية مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، كثمرة بحثية مضنية استمرت لتسع سنوات قام من خلالها المؤلّف باتباع النواة الأولى لبدء الولادة الإخوانية في أوروبا والغرب عموماً، وأعاد الكاتب تاريخ الوجود الناشط لجماعة الإخوان في الغرب إلى عقد الخمسينات من القرن العشرين. عندما بدأت مجموعات صغيرة من الإسلاميين المصريين، وآخرين من أقطار إسلامية التمركز في بعض الدول الأوروبية والأميركية كطلاب جامعيين عصفت بهم أدراج رياح الاضطهاد من ديار الإيمان إلى ديار الكفر، فخرجوا خائفين بحثاً عن ملاذ آمن ومأوى عادل في الغرب.

وعلى رغم انقطاع الإسلاميين عن أمهاتهم التنظيمية في الشرق الأوسط، إلاّ أنّ المهاجرين بسبب مناهضتهم السلطويات العربية بدأوا نشاطاً مكثفاً لنشر أفكارهم المستقاة من أدبيات حسن البنا، ومن مفاهيمه التنظيمية، وقاموا بتشكيل أولى المنظمات الطلابية الإسلامية، وأسّسوا المساجد في مرائب وغرف صغيرة أقاموا فيها الصلوات والاجتماعات، لتصبح بذلك أولى المنتديات الدينية لمسلمي الغرب.

يفيد الكاتب، بأن الحريات المتاحة في الدول الغربية سمحت للإخوان بممارسة نشاطهم المحظور في بلدانهم، فأصدروا مجلات، ونظّموا محاضرات والاجتماعات وأشكالاً أخرى ساهمت في نشر أفكارهم المحرّمة في بيئاتهم الوطنية.

رواد في الغرب

توقف الكاتب عند شخصيات لعبت دوراً رئيساً في إيصال الإسلام السياسي في الغرب إلى حركة متخمة بالحيويات المادية والمعنوية المساهمة في جعل جماعة الإخوان بدائل سياسية جاهزة وقادرة على الإمساك بالسلطة إذا ما توافرت لهم أسباب الوصول إلى الحكم. وبرّز لورينزو شخصيات استثنائية الدور في الغرب ومنها سعيد رمضان ويوسف ندا. الأوّل مصري التحق بحركة الإخوان ولم يتجاوز الرابعة عشرة من العمر، وبعد حصوله على إجازة في الحقوق من جامعة القاهرة أصبح السكرتير الشخصي لحسن البنا، وكانت أولى محاولاته التبليغية إصداره «الشهاب»، الصحيفة الرسمــــية للتنظـــيم، وفــي عـــام 1948 حارب رمضان في فلسطين من ضمن ثلّة من المتطوعين العرب، ولم يمض وقت طويل حتى عينه عاهل الأردن الملك عبدالله قائداً لكتائب القدس العسكرية، فبادر رمضان إلى إنشاء أوّل فرع للإخوان المسلمين في فلسطين.

بعد ذلك غادر رمضان إلى دولة باكستان الوليدة، واستطاع المنافسة على منصب الأمين العام للمؤتمر الإسلامي العالمي، وعمل في باكستان»سفيراً» لثقافة الإخوان، وأصبح شخصية مرموقة وجاذبة، فقدّم برامج إذاعية، وأصدر كتيبات، وسنحت له فرص النجاح التواصل مباشرة مع أبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية الباكستانية.

بعد ثورة ضباط الأحرار (1952)، عاد رمضان إلى مصر ليستكمل دعوته الإخوانية، لكن معاداة عبدالناصر للإخوان قد أطبقت على الفروع القيادية للجماعة، وجرى اعتقال رمضان وأودع السجن مع عدد من قادة التنظيم، وبعد إطلاقه قرّر رمضان الخروج إلى أوروبا مع زوجته وفاء، كبرى بنات حسن البنا.

من ألمانيا توجه رمضان إلى جنيف حيث أسس في عام 1961 المركز الإسلامي المحلي، الذي أصبح من أهم المراكز الحيوية للإخوان المسلمين في أوروبا، ومن ثمّ قرر رمضان إنشاء فروع للمركز، في أنحاء القارة الأوروبية.

أما يوسف ندا، فكان سليل أسرة ثرية في الإسكندرية، والتحق باكراً بتنظيم الإخوان. وعند بلوغه الثالثة والعشرين كان بين آلاف الإخوان الذين زجّ بهم عبدالناصر في السجون، وفي عام 1954 أي بعد سنتين من السجن أطلق يوسف الذي عقد العزم على مغادرة مصر وعدم العودة إليها، ويمّم شطر النمسا بعد أن غادر ليبيا هارباً منها عقب الانقلاب الذي نفذه العقيد القذافي ورفاقه ضد نظام الحكم الملكي تأثراً بثورة عبدالناصر.

أقام ندا في النمسا مؤسسات تجارية ساهمت في دعم جماعة الإخوان، وفي عقد السبعينات من القرن العشرين قرر مرشد الإخوان عمر تلمساني تعيين يوسف ندا مسؤولاً عن العلاقات الخارجية للجماعة بغية الاستفادة من مهاراته التجارية، ومن الشبكة الإخوانية التي أسسها للمسلمين الغربيين الجدد.

في عقد الثمانينات قام كلّ من يوسف ندا وغالب هيمات بإنشاء بنك التقوى، المصرف الذي اعتبره الكاتب مصدراً أساسياً لتمويل الإخوان في الغرب، وللدلالة على أهميته، يستحضر الكاتب اتهام وزارة الخزانة الأميركية كلاً من غالب هيمات ويوسف ندا بتوفير الدعم المالي لحركتي «حماس» و «القاعدة»، إضافة إلى تمويلهما الإرهاب ضمن أحداث 2001 على رغم عدم مقاضاتهما بتلك التهم أمام المحاكم الأميركية.

ويعتبر لورينزو، أن أولى المبادرات التي ربطت «الإخوان» والجماعة الإسلامية الباكستانية، وأسهمت في تمتين الوحدة التاريخية والشخصية والفكرية بين الجماعتين كانت من خلال المجلس الإسلامي في أوروبا، والمؤسسة الإسلامية في ليستر. ومن خلال القيادات المؤسسة للإسلام السياسي في الغرب.

وللتعبير عن التــماسك بين الجماعتين يقول غازي أحمد حسين رئيـــس الجماعة الإسلامية الباكستانية: إننا نعتبر أنفسنا جزءاً مكملاً لجماعة الإخوان والحركة الإسلامية في مصر والسودان وماليزيا، وكلنا نتبع تعاليم الإماميين البنا والمودودي.

ومن الشخصيات البارزة في سجل الكاتب، خورشيد أحمد، أحد الروّاد الذين لا يقلّ دورهم عمّا قام به سعيد رمضان ويوسف ندا. وهو من التابعين الأوائل للمودودي، وقد صعد إلى منصب نائب رئيس الجماعة الإسلامية، وكان عضواً بمجلس الشيوخ الباكستاني ووزيراً للتخطيط في حكومة ضياء الحق، وكلفه حزبه القيام بمهام نشر الإسلام في أوروبا وأفريقيا وأميركا، فاتخذ خورشيد من بريطانيا مقراً لإقامته.

في المؤتمر العالمي الأول حول أسلمة المعرفة في لوغانو السويسرية الذي حضره قادة من الحركة الإسلامية العالمية، وكان خورشيد أول الحاضرين إلى جانب عبدالحميد أبو سليمان أحد مؤسسي «الندوة العالمية للشباب الإسلامي»، إضافة إلى الشيخ يوسف القرضاوي أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المقيم في دولة قطر، وفي اللقاء اتفق على إقامة «المعهد العالمي للفكر الإسلامي»، على أن تكون الولايات المتحدة مقراً له، وشُكل أول مجلس للمعهد من مجموعة مفكرين، من بينهم طه العلواني وأنور إبراهيم الذي أصبح في ما يعد نائباً لرئيس وزراء ماليزيا، وقد أسندت مهام الإدارة في المؤتمر لإسماعيل فاروقي سليل إحدى الأسر الفلسطينية النافذة في منطقة يافا. واعتنق فاروقي الفكر الإسلامي العالمي في الولايات المتحدة من خلال صلاته بقيادة جمعية الطلبة المسلمين، وأصبح أحد رموز الشبكات الرائدة لجماعة الإخوان الأميركيين، بعد أن حوّل جامعة «تمبل» في فيلادلفيا إلى خلية حيّة للفكر الإسلامي الإخواني.

يقول الكاتب: إن نجاح الحركة الإسلامية في أوروبا وأميركا أدخلها عالم الصفوة السياسية والفكرية والإعلامية في تلك الدول، ويشير إلى عشاء سنوي تقيمه المؤسسة الإسلامية في ليستر ويحضره أمير ويلز متخذاً لنفسه مكاناً بجوار رئيس المؤسسة خورشيد، مبدياً إعجابه بمنجزات المؤسسة التعليمية، وما تبذل من جهود في حقل العلم والتعليم. ويضيف الكاتب أن قدرات الجمعية الإسلامية في ألمانيا والتي أسسها سعيد رمضان مكّنت مؤسسيها من الوصول إلى مخاطبة البرلمان الأوروبي. وينتقل الكاتب من نجاح الإخوان في الغرب، إلى الضرورة التي فرضت على الدول الغربية إعادة النظر في مواقفها من الإسلاميين وتحديداً من الإخوان المسلمين، وإبداء المرونة لرسم علاقة إيجابية ما بين الغرب والإخوان.

وسيط يعرف المسلمين

وللتوضيح، يعود الكاتب إلى أزمات السنوات القليلة الماضية، حيث شعرت الحكومات الغربية، وفي أوقات متفاوتة، بالحاجة إلى البحث عن وسائل لدعم الإخوان الجدد في الغرب. فالسلطات الدنماركية، على سبيل المثال، اعتقدت أن شبكات الإخوان المؤثرة فيها كانت حاسمة في حفظ الهدوء داخل البلاد بعد أزمة الرسوم الكرتونية المسيئة للنبي، وقد اعترفت قوى الأمن الدنماركية بأنّ التعاون مع الإخوان كان أساسياً لمنع العنف أثناء الأزمة. ويضيف لورينزو، أن التعاون الأمني تعدى في بعض الحالات الأوضاع الطارئة ليرسم نهجاً ونمطاً مؤسساً لعلاقات دائمة بادرت إليه حكومات غربية لخلق نوع من الوئام والألفة مع المجموعات الإسلامية في العالم الإسلامي. إذ ترى هذه الحكومات، أن العلاقة مع الإسلاميين في الغرب ستكون مفتاح اطمئنان لها مع الإسلاميين في العالم الإسلامي. وفي حالات كثيرة تمّ اعتبار الإخوان المسلمين الجدد في الغرب، على حد قول الكاتب، شركاء في الحرب على الإرهاب. لأن الحكومات الغربية اعـــتقــدت أن الإسلامـــيين الـــذيــن لا يحبذون العنف قد يساعدونها وبدرجة كبيرة على محاربة التطرف وسط الجاليات المسلمة. وقد أسست هذه الحكومات أشكالاً مختلفة من التعاون مع المعتدلين الإسلامين. وهنـــالك جدال طويل حول الإخوان الجدد في الغرب وقدرتهم على مساعدة الحكومات في مكافحة مشكلات الجريمة وحركة العصابات في المناطق ذات التركيز العالي من السكان المسلمين.

وامتد الجدال داخل الغرب حول دور الإخوان في إطفاء حرائق التطرف الإسلامي من مراكز الرأي إلى صنّاع القرار السياسي، ليدفع باتجاه العلاقة الإيجابية مع الإخوان، لتكون الجماعة جدار الحماية، أو الحائط الصدّ، أو الدرع الواقي، وصمّام الأمان ضد الراديكالية التي تأتي من «القاعدة» التي تتهم الإخوان بالرَدة لتخلفهم عن الجهاد، وعن النصرة، ولدعمهم الديموقراطية الغربية.

من جهتهم، عبر الإخوان الغربيون ومن خلال البيانات العامة، ومنذ الحادي عشر من أيلول عن شجبهم لما يقوم به تنظيم القاعدة، وأهابوا بالمسلمين نبذ العنف ونبذ أساليبه كافة، ودعوا إلى التزام الهدوء والسكينة وضبط النفس في الأزمات التي وقعت على المستويين المحلي والعالمي، وقد أصدر كبار العلماء في الجماعة فتاوى محرّمة للعنف والإرهاب.

حظيت هذه المواقف الإخوانية بالإشادة والإطراء من صنّاع القرار السياسي في الغرب. لذا لم يتوان الإخوان الغربيون الجدد عن اغتنام الفرص السياسية غير المسبوقة، لتقديم أنفسهم كأعداء ألدّاء للجهاديين بمختلف تشكيلاتهم وتنظيماتهم، وكشركاء أوفياء للدولة في المساعدة على اجتثاث شرور التطرف، وكانت مواقف السلفيين والجهاديين المخوّنة للإخوان تعزّز من رصيد هؤلاء لدى السياسة الغربية، وفي تعزيز الثقة.

في سلتيّ الغرب والإخوان الكثير من المواقف المشجعة على قيام مساوقة سياسية تتقاطع فيها مصالحهما المتعددة في الغرب وداخل العالم الإسلامي، ولكن، ثمة مخاوف يبديها الكاتب في خاتمة كتابه، من خلال دعوة بعض صنّاع القرار إلى انتهاج الدول الغربية سياسات من شأنها إقصاء الإخوان الغربيين الجدد لأنهم في نظر هؤلاء المتشائمين مجرّد ممثلين مخادعين مخاتلين يسعون إلى تقويض الحريات نفسها، والتي هيأت لهم أسباب القوة والازدهار.

السابق
الخشية من “تأنيث القضاء”
التالي
الربيع: “صحوة” تركية الهوى..لا إيرانية الجذر