يهرمن وأبناؤهنّ كالملائكة لا يكبرون

يعتصم الناس عادة في سبيل قضايا. يتّهمون بالتسييس، بالبحث عن مكاسب شخصيّة، عن … عن … أما هنّ فلا تهمة تلصق بقضيتهنّ
إلا الأمومة
لا شيء مسموعاً إلا «طرقات» حبّات المطر النازلة بخفّة فوق سطح خيمة الأمهات. هنا، في حديقة جبران خليل جبران في الوسط التجاري، كان الهدوء سيبدو قاتلاً لولا تلك الزخات. فلا عابرين ولا حرّاس اعتدنا وجودهم في غرفة الحراسة الصغيرة أمام مبنى الإسكوا المجاور. وحدهما، كانا هناك. هي مكوّرة، بمقاس طفلٍ، فوق سريرٍ كبير في الخيمة المشرّعة نوافذها لضوء الشمس الخافت، وهو على مقربة من الخيمة «يعشّب» البقعة الصغيرة من الأرض. يناديها «إم أحمد، إصحي، جاييكي ضيوف». بيديها، تحمل قدميها وتنزلهما إلى الأرض، وهي تقول «ما كنت نايمة، بس مخباية من البرد». تجلس على طرف سريرها، وقبل أن تعرف ضيوفها، تسحب من تحت وسادتها صورة مُحي لون إطارها مكان أصابعها، ومجلة صغيرة يحمل غلافها الصورة نفسها. هي صورة ابنها المفقود منذ زمن الحرب. تضعهما في حجرها وتنتظر السؤال. فهي تعرف أن السؤال سيكون عن ابنها أحمد الذي خطف قبل «27 سنة وشهرين وكم يوم». هكذا، تحسب الأم غياب أبنائها. لكن، انتظارها للسؤال لن يثنيها عن سرد الحكاية من «أوّلها». من الرملة البيضاء التي خطف منها ابنها، إلى سوريا حيث أقامت 20 عاماً في مخيم اليرموك باحثة في السجون، إلى مستشفى غزة في مخيم صبرا، حيث تعيش مع زوجة ابنها وحفيدها، إلى الخيمة التي تقيم فيها 4 أيامٍ في الأسبوع، بانتظار شيء قد «يصعب حدوثه»: عودة الابن. فهي تعرف ضمناً أن «رجعته طيّب مش واردة كتير»، لكنها تعوّل على «الخبريات» التي ينقلونها لها، وعلى عمر ابنها الصغير نسبياً. وحتى لو كبر وكبرت، فستبقى منتظرة، لأن «أنا إبني ما بحسّه إلا بعده بشعر أسود متل هالصورة». تماماً، كما كانت تشعر أنيسة عبد الله، والدة عماد عبد الله، التي توفيت قبل سنوات وهي تطالب بعودة «ابن العشرين سنة».
مرّت 27 عاماً. كبرت أم أحمد ـــــ أمينة عبد الحصري الشرقاوي، ناطورة الخيمة بعد أوديت سالم، وصار عمرها 78. كبر الثقب في قلبها، ولم يكبر أحمد. لا يزال عمره 22 عاماً. كالملاك. منذ زمن طويل، لم تعد أم أحمد تملك شيئاً حقيقياً. بقي لها الأثر فقط. هذا الأثر الذي خلّف فراغاً كبيراً، وهو الفراغ نفسه الذي يجعلها تمشي على قدميها المتعبتين من منطقة تلة الخياط، حيث ينزلها الباص آتياً من مكان سكنها إلى الخيمة.

يوماً بعد آخر، ينحني الظهر حتى ليكاد رأسها يطرق بركبتيها. مع ذلك، لن تترك الخيمة، فهنا «بحسّ حالي زي أي واحد بيجي تياخد روح». تخاف من اليوم الذي ستهرم فيه داخل غرفتها في مستشفى غزة. الخوف هنا يشبه تماماً الخوف على مصير كريستين وريشار، ولدي أوديت سالم التي توفيت أخيراً بحادث سير. لكن، ماذا عن اليوم الآخر، عندما تصبح تلك السيدة أثراً، كما أوديت وقبلها أنيسة؟ تعرف الأم في قرارة نفسها أن لا أحد «سيسأل عن ابني من بعدي». تستدرك «بس وصيت حفيدي إذا رجع أحمد يعمل له جنازة تليق فيه». وماذا لو كان الابن «عارياً»: لا طفل ولا زوجة ولا أم، كما هي حال ريشار ابن أوديت. حتى لو كانت الأخيرة قد تركت بصمة وفحص حمض نووي وشقيقة تتابع من بعدها، إلا أن مصير ريشار قد يخبو بموت الخالة، فهل سيضاهي اهتمام ابن خالته مثلاً اهتمام الأم نفسها؟ تلك السيدة التي انتظرت طفليها على مائدة الطعام 27 عاماً، وماتت وهي منتظرة؟

«طبعاً لا»، تقول فاطمة الزيات، أم غسان وفادي، فلا أحد «سيفهم الحب الذي أكنّه لطفلي». وبإصرار، تؤكد «هودي ولادي، مش ولاد حدا تاني». فاطمة، التي حفرت بيديها 3 أمتار في روضة الشهيدين بعدما سمعت أن ثمة جثثاً مدفونة هناك، لا تزال إلى اليوم تحتفظ «ببدلة عرس غسان، وتركت فرن الغاز والمناشف والشراشف، وكل مدة بشمّسهم وبرجع بخبّيهم». اليوم، تتمنى الأم لو أن واحداً منهما بقي «لكان تابع وضع أخيه من بعدي، بقي لي ابنتان. بس الزواج والأولاد قد لا يفسحون المجال أمامهما للبحث عن شقيقهما». ثمة استثناءات، كما في حالة ميادة عبد الله، شقيقة عماد. فهذه الأخيرة تنفذ وصية والدتها، مع ذلك، لا تحسب الشقيقة من سيرث هذا الحمل الثقيل من بعدها. قد لا يكون أحداً، وقد يكون «ابني أو ابنتي». واحد فقط. لا مجال لاثنين لا يعرفان عن المختفي إلا صلة قرابة يخفّ أثرها مع مرور السنين. أما الدولة، «فنسيتهم بنهار اللي انفقدوا»، تقول.

كل خميس، تحضر الشقيقة إلى الخيمة. تسأل عن جديدٍ … لا يتغير أصلاً، تماماً كما لا تتغير صورة عماد الصغير المدلّاة من عنقها. ذاك الخميس، كانت هناك مستلقية على المقعد الخشبي وفي يدها سيجارتها الطويلة. كما درجت العادة، ستقضي نهارها حتى الثالثة عصراً وتمضي بعدها إلى منزلها. الشقيقة المثابرة على «الخميس»، على عكس أمهات وشقيقات كثيرات «لم يعدن إلى الخيمة»، فالبعض يئس، فيما الغالبية كبرت، كحال جانيت عيد التي تمضي جلّ أيامها في المستشفى، وأم عزيز التي أوت نهائياً إلى «طراحتها» في غرفتها في مخيم برج البراجنة، منتظرة طرقة خفيفة ليدٍ فارقتها منذ 28 عاماً، قد تكون يد أحد الغائبين الأربعة عن ديارها.
28 عاماً. أقل. أكثر. ليس مهماً. ما يهمّ أن الأمهات كبرن، فأصغرهن عمرها 70 عاماً، وأكبرهن «بالتسعينات»، ومن رحلن «صاروا أربعة». يشبه هذا العمر عمر أمهات مفقودي «الحرب القذرة» في الأرجنتين. وهن الأمهات اللواتي اجتمعن قبل 35 عاماً في ساحة مايو يحملن صور المفقودين. على مدى 1500 خميس مَشينَ في الساحة، فكان الجواب إليهن من صاحب القصر «250 ألف دولار عن كل طفل»! ثمة تشابه بين أمهات الساحتين. تشابه إلى حد التطابق: وجوه الصور التي لم تكبر.

السابق
أيها المواطنون.. أيها البقر
التالي
من كل قلبي جهود أثمرت