الأسد يُنفِّذ الخطّة اللبنانية في سوريا

الخطّة عينُها يعتمدها الأسد. إنّها إيّاها اليوم ضدّ المعارضة السوريّة، وهي كذلك منذ العام 2005 ضدّ فريق 14 آذار: مماطلة متدرّجة وتقطيع للمراحل… إلى أن يتعب الخصوم وينشغلوا بشؤونهم. عندئذٍ، يتحيّن الفرصة لضربة قاضية.

في العام 2005، كان الرئيس بشّار الأسد وحلفاؤه اللبنانيّون يمارسون سياسة "الرؤوس المنحنية" لتمرير العاصفة. وأوحوا بأنّهم مستعدّون للتنازل، حتى في السلاح: تعالوا نتحاور حوله!

بعد عملية "تزحيط" إنطلت على 14 آذار، التي تبرّعت بنفسها بتسويق نظرية الحوار الداخلي في باريس وواشنطن، وَجَد حلفاء الأسد أنفسهم قادرين على "الحسم العسكري" في 7 أيّار. و"وافق" فريق 14 آذار ضمناً على تلقّي الضربة، "لأنّها أفضل من الفتنة"! ثمّ جاء القطاف السياسيّ للضربة في اتّفاق الدوحة 2008.

وبناء عليه، تمّ إبعاد فريق 14 عن الحكم في 2010، والمجيء بحكومة مُمَوّهة بالوسطيّة. وعندما تحين اللحظة، يتمّ اقتلاع الرداء الوسطيّ للمجيء بالحكومة "الصافية" التي يطمح إليها النظام وحلفاؤه. والحكومة المنشودة هي عينها حكومة الرئيس عمر كرامي التي أُسقِطت في آذار 2005، أو ما يوازيها. وبذلك يكون قد تمّ تصحيح "الخطأ" التاريخيّ الذي وقع في ذلك العام، أي "ثورة الأرز". وبعد ذلك، يصبح كلّ شيء وارداً، حتى العودة إلى الوصاية السياسية والأمنية والعسكرية على لبنان، بأشكال ونِسَب مختلفة.

لكنّ الأزمة التي لم يتوقّعها النظام وحلفاؤه هي أنّ "الربيع العربي" مرّ بدمشق أيضاً. ولذلك هم يحاولون تعطيله في المحطّة السوريّة، لعلّ ذلك يكفل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في لبنان والعراق وفلسطين وسواها. فبقاء النظام يتيح له أن يتابع في لبنان ما أراد أن يفعله من خلال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وإذا ما عاد الأسد إلى قوّته في سوريا، فإنّه سيكون قادراً على العودة إلى ممارسة سيطرة شبه كاملة على السلطة في لبنان.

لئلاّ نسلّم على بعضنا… في باريس!

وَجَد الأسد وحلفاؤه الإقليميّون أنّ "الخطّة اللبنانيّة" أعطتهم ثماراً، فقرّروا اعتمادها في سوريا. والوثائق التي تمّ كشفها أخيراً عن النصائح والتوجيهات التي يتلقّاها الأسد في تعاطيه مع ملفّه الداخلي، ولا سيما من إيران، تؤكّد أنّ المحور الإقليميّ الذي تصدّى للضغوط في لبنان هو نفسه الذي يتصدّى للضغوط في سوريا، ووفقاً للخطّة عينها.

في 15 آذار الفائت (قَدَريّة التواريخ المتلاقية بين لبنان وسوريا)، بدأت الانتفاضة في سوريا. كان ذلك في ذروة الزخم التغييري في مصر وتونس وليبيا. وكانت ثقة المنتفضين كبيرة في تحقيق أهدافهم. وعندما تعثّر رحيل العقيد معمّر القذافي لجأ الغرب إلى استخدام القوّة العسكرية، بموافقة روسيا.

لكنّ هذا لم يتحقّق في سوريا. و"الربيع العربي" يتلاشى في كلّ العالم العربي، ويتعثّر في سوريا. وما فَعَله المجتمع الدولي في ليبيا لا يبدو وارداً في سوريا لأسباب واضحة.

فالأسد، كما فعل حلفاؤه في لبنان عام 2005، بدأ بالدعوة إلى الحوار الداخلي في سوريا، وأعلن استعداده للقبول بالمبادرات، وأطلق الوعود ببرامج الإصلاح. وخرج العديد من العرب يؤيّده، وسط حماية روسيّة – صينية كاملة، وانقسم معارضو الداخل على خلفيّة التعاطي مع دعوات الأسد. وفي أيّ حال، لا يحتفظ "المناخ الدولي" بالحماس للإصلاح كما كان قبل عام.

هذا الوقت استثمره الأسد تماماً: يدٌ ممدودة لمبادرات عقيمة، كتجربة المراقبين العرب، ولأشكال من التعديلات الداخلية يعرف تماماً أنّها لن تصل إلى رحيل النظام. ويدٌ أخرى تقود عملية الحسم العسكري لإسكات الانتفاضة، وللمفاوضة من موقع قوّة.

ويراهن الأسد وحلفاؤه على تبديل باراك أوباما ونيكولا ساركوزي لكسب الوقت، تماماً كما راهنوا في لبنان على تبديل جورج بوش وجاك شيراك. وتبدو المعارضة السوريّة مُربَكة. فهي لا تريد إدخال سوريا في الحرب الأهليّة، لكنّها تحتاج إلى السلاح لمواجهة آلة القمع. وأمّا إذا لم تحصل على السلاح، فالنظام سيواصل القمع بلا تردّد، ويجتاح مزيداً من الأحياء والمدن، ولن يقدّم أيّ إصلاح حقيقيّ يؤدّي إلى سقوطه.

الخيارات صعبة. وتُشْبِه المعارضة السوريّة، في وضعيّتها، فريق 14 آذار. فيما الأسد وحلفاؤه يخوضون المعركة إيّاها، وبالأدوات عينها هنا وهناك. ويطمح هؤلاء إلى الحسم في سوريا ليتمكّنوا من الحسم في لبنان أيضاً. وهناك كلام جدّي متزايد في الأروقة الدولية على تسوية أو صفقة يوافق عليها الروس في سوريا. ومن المؤكّد أنّ هذه التسوية لن تؤدّي إلى رحيل الأسد… "ولو بعد 300 عام"!

وإلّا فما معنى أن يقول منسّق الأمانة العامّة لقوى 14 آذار الدكتور فارس سعَيد، ردّاً على سؤال في برنامج عبر "إذاعة الشرق"، السبت الفائت: إذا لم يَسقط النظام في سوريا حتى 2013، فإنّنا (أي أقطاب 14 آذار) "سنسلّم على بعضنا" في باريس؟!

ولكن هل عقارب الزمن قادرة فعلاً على العودة إلى الوراء؟ وهل سوريا يمكن أن تعود، كما كانت، تحت القبضة الكاملة للأسد؟

يصعب كثيراً ذلك، بل يستحيل. ويصعب حسم الثوّار لمعركتهم بالآليّات التي يمتلكونها، بل يستحيل. وبين هاتين الاستحالتين تَكشِف الحرب الأهليّة عن أنيابها، إلّا إذا طرأ عامل من خارج الاحتمالات الظاهرة، كموافقة الأسد على خطة واضحة للتخلّي عن الحكم على الطريقة اليمنية، أو إقرار موسكو وبكين بتسوية من هذا النوع وفرضِها. وليس ظاهراً حتى الآن أنّ أحد هذه الاحتمالات وارد، لأنّ الأثمان المعروضة على موسكو وبكين ليست كافية لتقديم تنازلات استراتيجية في حجم خسارتهما محوراً يمتدّ من المتوسط غرباً إلى طهران شرقاً.

السابق
الخلية السلفية
التالي
إحتفالات عيد الأم تعمّ المناطق وسط أجواء الفرح