ما بعد رحيل المشرقي العربي

البابا شنوده الثالث يعود اليوم الى حيث نفاه الرئيس أنور السادات: دير وادي النطرون. من التراب والى التراب يعود خادم الرب، وسط حزن المؤمنين. ومن شجرة الحياة الى صلابة الجذور يعود رمز الوطنية والحكمة، وسط شعور المصريين والعرب ان خسارة الرحيل تفرض المزيد من الجهود للحفاظ على جسر الوحدة الوطنية وإعلاء العروبة على أية هوية. فالرجل الذي جلس على كرسي بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الاسكندرية لم يكن مجرد راهب بل خدم كضابط في الجيش، ومارس التعليم ثم درس ودرّس اللاهوت، وكان في كل المراحل شاعراً تحركه روح مصر وتسكنه عذابات الفقراء وحاجاتهم المادية والروحية. وهو ترك تاريخا مستمرا في الحاضر وفاعلا في المستقبل.
في الأديار عاش البابا شنوده بمقدار ما عاش في دوائر الحياة كلها. واصطدم بالفرعون، حين خاف كثيرون من مخالفته حتى في الأمور الصغيرة. وقف ضد كامب ديفيد من دون ضجيج حين جعل زيارة القدس محرّمة على الأقباط. وجعل المنفى الذي فرضه عليه السادات فرصة للتأمل، فلم يهتز موقعه ولا تبدّل موقفه. اعترض على اتفاق أوسلو، لأنه تسوية جزئية تعطي اسرائيل معظم الأرض والتحكم بالقليل في أيدي الفلسطينيين. ولم يكن خوفه على القدس سوى خوف على المكان بوصفه قلب فلسطين وعلى المكانة الروحية الممتدة من الأرض الى السماء.

كان البابا شنوده يقول دائما ان الدور المسيحي في لبنان هو عمود الدور المسيحي في الشرق. وهو ربط بين الوجود الديمقراطي للمسيحيين وبين الحضور الوطني والثقافي لهم. وكان نقيض الدعاة الى حماية الأقليات. فلا حماية للمسيحيين والمسلمين معاً إلاّ بالدولة المدنية الديمقراطية. ولا أهمية للحضور المسيحي ان لم يكن المسيحيون جزءاً من النسيج الوطني، حيث الأكثرية سياسية والأقلية سياسية. وليس سراً وقوف البابا شنوده ضد التقسيم واعتبر ان من يدعو الى جمهورية قبطية مختل عقلياً.
وهو يرحل اليوم في بداية فرصة مهمة فتحها الربيع العربي مهددة بأن تتحوّل خطراً على يد التيارات الأصولية. والتحدّي أمام الجميع هو توسيع الفرصة لبناء دول وطنية ديمقراطية ومواجهة الخطر المتمثل باقامة استبداد آخر.
واذا كانت تجربة لبنان هي الرائدة، بصرف النظر عن التعثر والسجالات حول حماية الأقليات، فان تجربة مصر هي حجر الأساس في البناء العربي. وفي نجاحها أو فشلها الحد الفاصل بين ربيع ديمقراطي وشتاء استبدادي.

السابق
الوزير المدلل والحجم الطبيعي
التالي
شر القاعدة