جنبلاط.. آخر المواقف؟!

يتساءل الكثيرون عن المواقف الأخيرة للنائب وليد جنبلاط بالرغم من الاشمئزاز أو التجاهل اللذين يبديهما البعض ممن يستعرضون كلام سيد المختارة في الصالونات السياسية. إلا أن الأكثرية الحاكمة تردد كلاماً واحداً مفاده أن "البيك" يقدم على "الانتحار" سياسياً، في حين ينبري آخرون الى القول إن جنبلاط يراعي مصالحه الشخصية أولا من خلال حجز مقعد له في المسار السياسي الذي يبنى على قاعدة أن "النظام" في سورية سيسقط حكماً ما سيغيّر وجه المنطقة.

مصادر سياسية في الأكثرية تقول إن الرهان على سقوط قيادة الرئيس السوري بشار الأسد ما زال مبكراً جدا،ً لا سيما بعد تمكن الحكومة السورية من حسم الأوضاع على الأرض، خاصة في الأماكن الأكثر توتراً إن في بابا عمرو في حمص أو في إدلب التي لم تكن تشغل بال القيادة السورية، فهي اعتبرتها ساقطة عسكرياً مهما صدحت ونطحت.

تشير المصادر الى أن ذلك الحسم كان متزامناً مع حراك سياسي دولي ضاغط على القيادة السورية، بهدف منعها من تحقيق اي انتصار تكون له تداعياته على أوضاع الجماعات المسلحة التي تمول وتأتمر بأوامر ذلك الحراك العربي – الدولي، لكن الحكومة السورية استطاعت الإفلات من تلك الضغوطات بعدم الإنصات إليها أولا، ومن خلال ما هيئ لها من دعم تبنته روسيا والمحور الإقليمي الذي تنتمي اليه.

تقول المصادر إن جنبلاط بنى قراءته السياسية على ما سمعه من أوساط دولية وإقليمية حول نظرتها الى المنطقة في المرحلة المقبلة، والتي تقوم على قناعة أنه لم يعد جائزاً الإبقاء على صيغة المحاور التي فرضت نفسها بعد سلسلة الأحداث التي شهدتها منذ اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وما نتج منها من متغيرات وحروب لم تفلح في تطويع ما يعرف بمحور الممانعة، لكن في الحقيقة فإن ذلك المحور لا يعمل فقط على الجبهة "الإسرائيلية"، إنما باتت منظومة (الاعتدال) العربي ومحوره الذي يتبنى آراء مجموعة كبيرة من الأنظمة العربية المرتبطة بمصالح سياسية واقتصادية مع الغرب "الإسرائيلي" ترى فيه مارداً مخيفاً يهدد بقاء أنظمتها على المديين القصير والبعيد.

وتضيف المصادر ان جنبلاط الذي دعا طائفته الموحدين الدروز اينما كانوا الى بناء استراتيجيتهم على تحالفات مع المسلمين السنّة، باعتبارهم الحضن الذي يجب الارتماء فيه، كشف عن أن ما سمعه من خطط عربية – غربية قائم على النظرة القديمة – الجديدة الى المنطقة وتكوينها الإثني، وهو الأمر الأساسي نفسه الذي يتموضع جنبلاط ومكونه الطائفي فيه منذ تقسيم المنطقة إبان عهدي الانتداب الفرنسي والبريطاني لها، ولكن صعود نجم المسلمين الشيعة بعد نشوء الجمهورية الإسلامية في إيران خرّب تلك المعادلة التي حكمت على مدى اكثر من ستين عاماً، ومن ضمنها نشوء الكيان الصهيوني الذي يسعى الى إعادة اللعبة الى مربعها الأول اي الطائفي المذهبي بعد فشله في الدفاع عن نفسه في حروب ضروس خاضها مع نهج المقاومة الذي أرست دعائمه مسارات العمل السياسي منذ 1979 وسقوط نظام الشاهنشاهية في إيران.

دعوة جنبلاط تلك ونظرته الى مكونات المنطقة، قد تكون منطقية بحسب وجهة نظره وآخرين إذا ما تم احتسابها وفق معايير الأقلية والأكثرية، أي ما عمل الأميركيون على ترسيخه والإعداد له منذ صعود إيران في تلك الحقبة والتي تقوم على مبدأ إنشاء "عالم عربي سني كبير"، إذ تركزت نظرة الأميركيين على أن المنطقة مقسمة بين أكثرية مسلمة سنية وأقلية مسلمة شيعية. ووفق مفهومهم العددي للديمقراطية، فإن من مصلحتهم الرهان على الأكثرية، لكن في تلك الفترة اصطدمت الرؤية الأميركية بمكون "التطرف الإسلامي" الذي يتمركز داخل الأكثرية الممتدة على أكثر من ثلثي جغرافية المنطقة، ما أربك خطوتهم وأبطّأها بانتظار التوصل الى حلول ممكنة، واستفحل الأمر بعدما استطاع ذلك التطرف أن يضرب في عمق الولايات المتحدة فضلا عن أماكن أخرى، ما هدد بشكل مباشر ليس المصالح الأميركية فقط وإنما وجودها برمته في المنطقة.

ما يبني عليه جنبلاط هو أن "العالم العربي السني الكبير" قرر أن يكون سنياً صافياً مهما كلف الأمر، وأن ما يعتبره "ثغرات" في جسده يجب أن يزال ليعيد سيطرته على المنطقة وامتلاك قرارها من دون مشاركة أحد، الأمر الذي يقتضي إزالة النهج الذي أعاق فرض السلام مع "إسرائيل" في سورية عربياً، وذلك بالهجوم عليه من منطلقات غابت عن شبه الجزيرة العربية منذ مئات السنين واتهامه بأنه "علويّ"، بعدما فشل العالم العربي السني الكبير من الاستحواذ على قرارها ومحاصرتها أو حتى فصل مسارها عن إيران التي اجتمعت مع سورية في مسار واحد عنوانه فلسطين وعودة الحقوق العربية بأسلوب باعته الأنظمة العربية مع بيعها لنفطها لبناء ابنية زجاجية حديثة ولامعة.

وتؤكد المصادر نفسها على أن ما حكم خطوة جنبلاط هو هذا المنطق، لأن فيه استمرارية لقيادته على الطائفة الدرزية في لبنان، وفي سورية ولكن لاحقاً، بعدما عبّر هؤلاء هناك عن امتعاضهم من مواقف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، إضافة الى أن جنبلاط لم يُشفَ بعد من ثأره الذي يتقلب معه في فراشه، في حين أن الفريق الذي أعلن جنبلاط العودة اليه لم يعيده الى موقعه الذي كان عليه قبل مغادرته، كما لم يفسح له في المجال الذي كان يتوقعه، ما اشعره بضيق فقرر أن يلعب "صولد" قبل تقاعده السياسي الذي وفّر له اموالا طائلة جمعها من بيع المواقف والتقلبات السياسية بأغلى الأثمان.

السابق
حركات مشينة في باحة المسجد الأقصى
التالي
كتائب عبدالله عزام: علينا اغتيال جنبلاط لإطلاق قياداتنا من سجون سورية !!