الكتلة الثائرة والإشكالية الطائفية

درعا وريفها منطلق الثورة, بعض من دمشق المدينة وكل ريفها تقريبا, ما عدا مدينة صيدنايا ذات الغالبية المسيحية, حمص وريفها ماعدا المخرم الفوقاني وبعض قرى الريف التي يغلب عليها الانتماء المسيحي لسكانها, حماة وريفها الشرقي, أدلب كلها تقريبا بمدينتها وريفها, ريف حلب الاهم وبعض من احيائها, ماعدا مدينة عفرين, وبعض أحياء حلب ذات الغالبية الكردية التي يسيطر عليها بمعرفة النظام الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان, القامشلي وأكثرية ريفها الكردي والعربي والآشوري, الرقة كمدينة, دير الزور بريفها ومدينتها, مدن اللاذقية وجبلة وطرطوس وبانياس, هذه المدن التي نكل بها بطريقة شرسة وتمت محاصرة احيائها وبيوتها وشوارعها حتى اللحظة, بينما لم يتحرك ريف الساحل أبدا, من دون أن ننسى تلكلخ التي أجرم فيها النظام, ومن دون أن ننسى مشاركة أعداد كبيرة من الناشطين من مختلف الأديان والطوائف, وبحسبة بسيطة ليسمح لي بعض الناس بذلك, إن الكتلة المتحركة والثائرة إنما تعبر عن أكثرية سكانية واضحة ولا تقبل الجدل, أكثرية ثائرة, هذه الكتلة الثائرة التي لم تجد مكانا في السابق تنطلق منه سوى الجامع, وفيما بعد المدارس والجامعات, واجهت هذه الكتلة الثائرة منذ البداية قمعا همجيا وشرسا ومن دون أي روادع من اي نوع كان, وإلى جانب ذلك اشتغلت الماكينة الاعلامية للعصابة الحاكمة وتوابعها, في الهجوم على الثورة وعلى هذه الكتلة منطلقة من كذبتين: الأولى: ان هذه الكتلة تتحرك من أجل النيل من دور سورية المقاوم في مواجهة الامبريالية والصهيونية, وتحركت مع هذه الكتلة آلة الاعلام و"التشبيح" في كتلة "الثامن من آذار" التي يتزعمها "حزب الله" اللبناني وذيله ميشال عون ومخبروه كوئام وهاب وغيره, .

الكذبة الثانية: ان هذه الثورة عبارة عن حركة سلفية اصولية إسلامية لأن تظاهراتها السلمية قد خرجت من الجوامع, مستهدفة نصف علمانية العسكر والعصابة الحاكمة, ومستهدفة التعايش الذي يحميه عسكر الفساد!
هذه الكتلة الآن تخرج من كل الامكنة.

اليسار والثورة
هذا التجني الذي تعرضت له الكتلة الثائرة, أراد أن يضفي على هذه الكتلة الثائرة طابعا طائفيا, باعتبار أن غالبية من خرج في التظاهرات يتحدر من الاسلام السنة في سورية. " يحاول بعض هذا اليسار إعطاء انطباع أن هذه الثورة ذات بعد طائفي- فاتح جاموس أحد مؤسسي حزب العمل الشيوعي في سورية في مقابلة له على قناة "الاورينت" في بداية الثورة, والمفكر السوري سحبان سواح في بداية الثورة,مثالا".
وتحت حجة الانتقال التدرجي والآمن للديمقراطية تمرر مقولات العداء للثورة التي تفوح منها رائحتان تزكمان الانوف الأولى ما تحمله من نفس طائفي سنأتي إليها لاحقا, والثانية نفس مصلحي مع النظام أو مع "حزب الله", وهذا جعلهم يتنطحون لتأكيد ما يرمون إليه عبر مقولة انتشرت في بدايات الثورة, وهي لماذا لا تعطوا وقتا للاصلاح لهذا النظام المقاوم؟ بينما هم يدركون أكثر من غيرهم أن هذا النظام الوراثي جعل البلد مزرعة عائلية بالقمع والفساد, ونهب خيراتها وتوزيعها بشكل ولائي, وهذا ما يجعل ادعاء هذا اليسار المتعلمن ادعاء ساقطا أخلاقيا وفكريا وسياسيا.
هل مطلوب من سورية أن تبقى تحت حكم هذه الآلة القاتلة؟ إن التظاهرات المتواصلة منذ سنة ضد النظام السوري والرد القمعي المتوحش والذي خلف حتى الآن أكثر من 6200 شهيد وآلاف المصابين وعشرات الالاف المعتقلين,كيف يمكن الحديث عن نظام مقاوم يسانده حزب طائفي منذ لحظة تأسيسه وحتى اللحظة؟ وهل "حزب الله" حزب علماني؟ لكون هذا اليسار يضحي بالحرية من أجل العلمانية الزائفة. إذا افترضنا جدلا أن النظام السوري انتصر موقتا على الثورة, ما المقاومة التي ستبقى ويستطيع هذا اليسار الدفاع عنها? ومن جهة أخرى ماذا سيعني لهم إنتصار هذا الشعب العملاق؟ وما الذي سيعنيه بالضبط بالنسبة الى اولئك الذين يدافع عنهم اليسار ويكافح من أجلهم؟ هل من المقبول قتل الآلاف من شعبك واعتقال عشرات الالاف وتدمير مدن واحياء من أجل مشروع مقاومة هو أداة إيرانية في المنطقة? أين اليسار من كل هذا؟ وأي يسار هذا؟
إن توزيع الثروة يوضح بما لا يقبل مجالا للشك ما نريد ان نبينه في هذه الاطروحة الخاصة التي نتحدث فيها عن الكتلة الثائرة, ولكن قبلها تحدثت عن هذا النوع من اليسار كي أقول انه يسار تخلى عن أي نزوع طبقي في قراءته للظاهرة الثورية المتحركة, وهم يدركون أيضا أن الكتلة المطيفة من الأقلية العلوية لن تتحرك, مهما كانت درجة الإفقار, ولاسباب يعرفونها جيدا, وهذا يجعل الناشطين والمثقفين المتحدرين من الطائفة العلوية في نصرتهم لثورتهم السورية كمن يقبض على جمرة ملتهبة بين انامله, وتحتاج هذه القبضة إلى وعي عميق وجوهري بالمعنى الوطني إضافة إلى تثمين راق لمقولة العدل, والتي تخلى عنها متشدق اليسار والعلمانوية, هذا إذا لم نتحدث عن احتقار هذا النوع لمقولة الحرية والديمقراطية. لقد أسقطت الثورة زيف مقولات يسار متواطئ وعلمانية تكره مجتمعها, وعاجزة عن التأثير فيه, إلا من زاوية وقوفها مع العسكر وتلميع صورتهم, والثورة أعلت من مقولة الحرية والمدنية والديمقراطية. هذا اليسار الذي لم يكن يأتي على ذكر الاشكالية الطائفية ودور السلطة في تلغيم المجتمع السوري فيها. لهذا هم تعاملوا مع الثورة والكتلة الثائرة بأنهم سنة, وسنة سلفيون يخرجون من الجوامع! وبعدها بدأوا التسويق لقضية العصابات المسلحة كمساعدة مجانية لنظام يحتقر طروحاتهم, ويسخر من يساريتهم وعلمانيتهم هذه. واهم ما كذب ادعاءهم في الواقع مشاركة مدينة سلمية ومدينة شهبا ومدينة قطنا, في الثورة أي فيها كتل مسيحية واسماعيلية ودرزية, ومشاركة المكون الآشوري بقوة في الثورة, إضافة للمكون الكردي القومي ما خلا مجموعة أوجلان التركية! شعارات وهتافات ويافطات الكتلة الثائرة حول فهم هذه الكتلة لوحدة الشعب السوري وتبنيها بالدم لهذه الوحدة على أسس المواطنة والمدنية, كل هذا جعلهم يدخلون في قوقعتهم التيمية- نسبة لتجمع تيم الماركسي- وهم يرتدون طربوش الطرابيشي, نسبة للمفكر السوري جورج طرابيشي.

الثروة وتوزيعها
إن الغالبية من سكان سورية يتحدرون من السنة عربا وكردا, ويشكلون أكثر من 75 في المئة من السكان, الطائفة العلوية تقدر بين 12و14 في المئة والمسيحيون السوريون 9 في المئة تقريبا, لكن تبعا لبناء النظام الولائي, كانت عملية التهميش والافقار تقع على هذه الكتلة, ومن الطبيعي أيضا أن تغلب على الكتلة الثائرة أنها تتحدر من السنة في سورية, فهل مطلوب منهم أن يغيروا دينهم ويصبحوا شيعة أو دروز مثلا, وفيما بعد يثورون على هذا التهميش والتفقير؟

جميعنا يعرف أن توزيع الثروة في سورية كان يتم عن طريق مسرب أساسي أثناء حكم الأسد الأب, وهو مسرب قطاع الدولة والجيش والمخابرات, ثم بدأ ينتقل تدريجيا إلى القطاع الخاص مضافا بالاحتياز بقوة السلطة اللاقانونية- دور آل مخلوف وآل شاليش وآل الأسد أمثلة فاقعة لحجم ثرواتهم في العقد الأخير- حيث تحول هؤلاء أيضا إلى أكبر رب عمل في القطاع الخاص, لكن قبل ذلك عندما كانت السلطة تعتمد على دور قيادة قطاع الدولة هذا اعتمدت على توظيف البعثيين في مرافق الدولة المدنية كدائرة ولائية للنظام واسعة الطيف, ثم تصغر الدائرة ويضيق الاختيار الوطني فيها لتقتصر على ابناء شعبنا من الطائفة العلوية ,أقصد في الجيش والمخابرات, هذه الدائرة الولائية الامنية العسكرية ووفقا لطبيعة النظام وطريقة بنائه وآلية تفكير الديكتاتور, جعلته لا يثق إلا بطائفته أو الطائفة التي تحدر منها لأنه في النهاية لا تهمه سوى سلطته المطلقة, وهذا ترافق مع إطلاق يد الفساد لهؤلاء الجند, فتحول كل ضابط إلى اقطاعي, وكل لواء أو كتيبة أو فرقة عسكرية إلى مزرعة, وبذلك تحول الجيش إلى مزارع بقيادات تنتمي غالبيتها الكاسحة الى المنبت الطائفي نفسه. وتابع في هذا الموضوع أنه قام بحملات تطويع وتشجيع مستمر بالنسبة الى الافراد وصف الضباط من الطائفة ذاتها, وهذا ما لم يكن مسموحا به لمكونات أخرى. وبذلك يمكننا القول أن الفقر لم يعد فقرا مطلقا ومعمما, بل نسبيا مقارنة بالشريحة نفسها من المكونات الأخرى. وتراكم هذا الوضع عبر السنين مع الفساد والنهب من قبل الدائرة الولائية الأولى- جيش ومخابرات- والثانية- قطاع دولة مدني- كان من الطبيعي أن تدفع الثمن الكتلة الاكبر من المجتمع, لأن من يلاحظ تطور هذا الوضع في سورية عبر أربعة عقود, يجد أنه تمدد لاحقا حتى لوظائف الدولة المدنية, وحمص عينة على ذلك فقد اصبحت أكثرية موظفي مؤسسات الدولة في حمص من أبناء الطائفة العلوية القادمين من الريف الشرقي لحمص, رغم أنهم يشكلون أقلية ضئيلة من سكان محافظة حمص.
هم موظفون فقراء هذا صحيح, ولكن الكتلة الأكبر لا تستطيع نيل حتى هذه الوظيفة, ومثال مدينة حمص فاقع على هذا الصعيد, من هنا يمكننا القول ان توزيع الثروة في سورية انبنى على أساس الدوائر الولائية التي تحدثنا عنها, لهذا كان الطبيعي أيضا أن تكون الكتلة الثائرة بغالبيتها من المكون السني.

ومع ذلك المراقب العادي وجد أن هذه الكتلة الثائرة لم تتخل عن برنامجها في حرية سورية, وأن سورية شعبها واحد وحريتها واحدة , حتى الجيش السوري الحر في بياناته وخطاباته, في تشكيلاته التحتية, يتبنى خطابا مدنيا واضحا ونحو دولة مدنية وحرية وتداول سلطة, أما اسماء الكتائب المنشقة لها أسماء إسلامية فهذا أمر يمكن تناوله من زاوية أن هذه الاسماء لم يتم احياؤها لأن في تاريخها من ارتكب مجزرة ضد طائفة من طوائف سورية, بل هي لتحشيد وتحشيد تبسيطي في متناول اليد, من أجل التفاف الناس حولهم, وهذا يذكر بستالين عندما استخدم القومية الروسية, وهو الاممي ابن الحرب العالمية الثانية, ومع ذلك هذا خيار مستعجل وغير صحي إلا انه ليس موجها طائفيا في حركة هذا الجيش, وبخاصة إذا علمنا جميعا ما هو دور إيران و"حزب الله" بمساندتهما لنظام مجرم في ردة الفعل هذه.

نقطة اخيرة, احساس الفقير بالسلطة وأنه يمتلك سلطة على أقرانه, هو بحد ذاته كان له طابع تمييزي قهري, عندما يقارن موظفا من أي مكون سوري مع أي موظف متحدر من الطائفة العلوية, ولهما الوضع الطبقي نفسه, يجد أن هناك إحساسا بالسلطة لدى قرينه الطبقي تمارس عليه حالة من التمييز الاجتماعي والوظيفي جراء انتمائه فقط, ويمكن أن نعود إلى هذه النقاط في مقالات تفصيلية لاحقة.
أعتقد بحسبة بسيطة لمن يريد أن يكون موضوعيا ولو قليلا سنجد أن الثورة غطت أكثرية سكان سورية وطوائفها وأديانها واثنياتها.

السابق
قلق إسرائيلي من سحب ثلث القوة الفرنسية ويضع علامات بالأحمر مكان بناء الجدار
التالي
طائرات ورقية في سماء غزة تضامناً مع أطفال اليابان في ذكرى الزلزال