إعتذار جنوبي

لينك "يوتيوب" هذا يحتوي على مشهد مصوّر لحادثة في الجو شهدتها طائرة "ميدل إيست" كانت متوجهة من باريس الى بيروت. ويبدو ان راكباً تسبب بها يرجح ان يكون مخموراً. والحادثة كان يمكن ان تكون عادية وعابرة لولا ان الرجل قال في غمرة غضبه غير المفهوم: "انا من الجنوب" وكرر هذه العبارة معتقداً انها كافية لبث الخوف في نفوس المتصدين له! كما ان عبارة أخرى قالها أحد ممن حاولوا ضبط غضب الرجل، يجب الوقوف عندها أيضاً، اذ توجه الى الرجل الغاضب قائلاً: "اذا كنت أنت من الجنوب فأنا من بعلبك"!

اذاً لا يمكن التصدي لمن هذه حاله (من الجنوب) الا عبر من تلك حالته (من بعلبك). فالطائرة تقل لبنانيين من كل المناطق والأعمار والشرائح، ولدى الطاقم صلاحيات ونفوذ وقدرات، لكن كل ذلك لا يمكن توظيفه في ضبط جموح من يقول "انا من الجنوب"، وبما انه "لا يفل الحديد الا الحديد" استحضر راكب بعلبكيته ليواجه بها جنوبية الرجل، لكنه ما لبث ان اكتشف ان بعلبكيته "فتوة قديمة" فقدت فعاليتها في سياق التصدر الجنوبي.

الحادثة كان يمكن ان تكون عادية وغير ذي دلالة لولا ذلك المضمون الرمزي الذي استحضره رجل مخمور شعر بأن في جنوبيته فائض قوة يمكن توظيفه على ارتفاع 40 ألف قدم عن سطح الأرض. والحال ان كل اللبنانيين يعلمون مصدر الشعور بفائض القوة هذا، وكثيرون منهم يشعرون بأنهم عرضة لاحتمالاته كل يوم. فالنفوذ "الميداني" لـ"حزب الله" ولهوامشه السياسية والأمنية، لم يعد مسألة ضمنية تشتغل آلياته في الميدان السياسي، انما صار جزءاً من الدبيب اليومي لعيش المواطن.

من الظلم القول إن "حزب الله" هو من دفع بهذا الرجل الى هذه الفعلة في الجو. لكن ليس من التجني اطلاقاً تفسير فعلته وفق مقولة فائض القوة هذه. هو ليس عضواً في الحزب، كما انه من المرجح ان يكون قد تعرض لعقاب بعد هبوط الطائرة، ولم يجد من يُنقذه منه. لكن ما هو جوهري أكثر في واقعة الـ"ميدل إيست" يتمثل في ان "الجنوبية" صارت احتمال تهويل يمكن اشهاره في وجه أي سلطة وفي سياق أي مواجهة.

وشحن "الجنوبية" بهذا المضمون السلبي، جرى وفق منطق فائض القوة الذي خلفه "حزب الله" في الشارع، وهو أمر يمكن ان يتلمسه حتى ضِعاف الحال من الجنوبيين أمثالنا، ذاك أننا على رغم وهن نفوذنا وتداعي أعمارنا وخور قوانا تجدنا وقد خلفنا الحذر في نفوس كثيرين ممن يشاركوننا الوهن والضعف والتعب.

لأي سلطة، فعلية كانت أم ضمنية، قيم ومعان يتم تعميمها، وللسلطة أيضاً لهجة محكية وصور وفنون تسعى الى بثها واعتمادها. "الجنوبية"، لهجة ومنطق وذوق، مطروحة علينا اليوم بصفتها لهجة السلطة ولغتها، وفي ذلك انتزاع لها من ماضيها ومن دلالاتها، وهي بهذا المعنى "جنوبية" جديدة مترافقة مع عملية قطع كبرى مع الماضي.

لكن السلطة التي تقترح لهجتها علينا، هي سلطة غير مرغوبة من أكثر من نصف اللبنانيين، وهي اذ تشعر بذلك، تشحن لهجتها بقدر من الغطرسة وتحول العبارات الى مفاتيح ترهيب ضمني.

لعل أكثر من يُصاب بانتقال "الجنوبية" الى مضمونها الجديد، هم من هي لسانهم من دون ان تكون مصدر قوتهم. انهم ضحاياها، وضحايا ضحاياها. وعلى ارتفاع 40 ألف قدم ثمة من سرق لسانهم، وهدد به ركاب الطائرة.

السابق
جنبلاط:الثورة السورية أخرجتنا من السجن الكبير
التالي
الديار:المحامون يتجهون للاضراب المفتوح بحال عدم تعيين رئيس مجلس القضاء