لم يتغيّر شيء في موسكو

هل تغيّر شيء في موسكو، اقلّه بالنسبة الى قضايا المنطقة؟ الجواب ان روسيا لا تشبه في سياستها الشرق اوسطية سوى الاتحاد السوفياتي. من يحتاج الى دليل على ذلك يستطيع العودة الى وقائع الجلسة الاخيرة التي عقدها مجلس الأمن التابع للامم المتحدة والتي تأكد فيها ان موسكو عاجزة عن التخلي عن اللغة الخشبية التي تعود الى ايام الاتحاد السوفياتي. كما في نيويورك وقبل ذلك في القاهرة حيث التقى وزراء الخارجية العرب، لم يستطع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الخروج بجديد.
كرر سيرغي لافروف الكلام الروسي المعهود الذي لا يفرّق بين المجرم والضحية والذي لا يعترف بوجود ثورة شعبية حقيقية في سورية. ترفض روسيا الاعتراف بأمّ الثورات العربية وكأن التاريخ تجمّد يوم سقوط سورية قبل تسع واربعين سنة تحت حكم العسكر والاجهزة الامنية وصولا الى حكم الطائفة الواحدة ثم العائلة الواحدة…
بالنسبة الى لافروف، لم يتغيّر شيء في هذا العالم. يندرج موقفه في سياق المواقف التي اتخذتها موسكو من قضايا الشرق الاوسط منذ ما يزيد على ستة عقود ونصف العقد، اي منذ ما قبل اعلان دولة اسرائيل في العام 1948. كلمة الانتهازية تختصر هذه المواقف التي كان في الامكان تفسيرها، حتى بداية العام 1992، التاريخ الرسمي لانهيار الاتحاد السوفياتي، في اطار الحرب الباردة والمواجهة القائمة بين القوتين العظمتيين. اكثر من اي وقت، تبدو روسيا في السنة 2012 اسيرة عقدة اسمها الاتحاد السوفياتي…
ليس عيبا ان يكون الاتحاد السوفياتي بين اوّل المعترفين باسرائيل كما لو انه كان هناك سباق بينه وبين الولايات المتحدة على ذلك. لكن العيب ان يسعى الاتحاد السوفياتي الى استغلال العرب بالطريقة التي استغلّهم بها وان يلعب دورا اساسيا في نقلهم من كارثة الى اخرى تحت عناوين عريضة من نوع الصداقة والتحالف في وجه الاستعمار والامبريالية والدفاع عن حقوق الشعوب وحق تقرير المصير.
لو كان الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، صديقا بالفعل للعرب لكان ساعدهم في تفادي اي تهوّر، خصوصا في مرحلة ما قبل حرب العام 1967 على سبيل المثال وليس الحصر.
يمكن طرح الف سؤال وسؤال عن التصرفات السوفياتية في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وذلك بدءا بالسماح بنحر الشيوعيين على يد الانظمة العربية «الوطنية» اكان ذلك في مصر او سورية او العراق او السودان. لكنّ السؤال الاهمّ الذي لا يزال مطروحا الى اليوم: ألم يكن في استطاعة موسكو تحذير جمال عبدالناصر من خطورة الانجرار خلف التحريض البعثي السوري وتوفير كل الاعذار لاسرائيل كي تبدو الحرب التي شنتها على العرب في الخامس من حزيران- يونيو 1967 حربا وقائية، علما انها لم تكن كذلك باي شكل من الاشكال بدليل اصرار اسرائيل حتى اليوم على الاحتفاظ بالقدس الشرقية وبقسم من الضفة الغربية؟
لو كان الاتحاد السوفياتي صادقا مع العرب، لكان سعى منذ البداية الى افهامهم ان موازين القوى العسكرية والدولية ليست في مصلحتهم وانه كان عليهم منذ البداية القبول بقرار التقسيم بدل تلاوة فعل الندامة عشرات، بل مئات المرات، عندما لم يعد ينفع الندم. كان عليه اجبارهم على ان يفهموا انه لم يزودهم يوما باسلحة تسمح بتحرير فلسطين وان الاسلحة التي لديهم دفاعية بالكاد وتصلح لقمع الشعوب كما حصل مع اهل الاشرفية وصيدا وطرابلس في لبنان على سبيل المثال وكما يحصل حاليا في ادلب بعد حمص وحماة ودرعا وعشرات المدن والبلدات والقرى السورية!
لو كان الاتحاد السوفياتي صادقا مع العرب، لكان ابلغ جمال عبدالناصر، قبل طلب سحب قوات الامم المتحدة من سيناء واتخاذ قرار باغلاق مضيق تيران انه يدخل حربا خاسرة ستكلّف العرب الكثير. هل كانت الاجهزة السوفياتية وقتذاك في درجة من الغباء لا تسمح لها بتحذير العرب من النتائج التي ستترتب على اتخاذ مواقف مغامرة…ام انه كان مطلوبا في كل وقت من الاوقات استغلال ضعفهم بغية تسجيل نقاط على «الامبريالية»؟
في كلّ الاحوال، لم تستفد الشعوب العربية يوما من الاتحاد السوفياتي. استفادت منه الانظمة القمعية التي استخدمت شعارات الممانعة والمقاومة وما شابه ذلك لقهر شعوبها واذلالها. كان مطلوبا في كلّ وقت ان يشعر العربي بان الرهان على الاتحاد السوفياتي هو خياره الوحيد، الى ان تبيّن ان هذا الرهان كان اقرب الى السراب من ايّ شيء آخر. كان اوّل من اكتشف ذلك الرئيس الراحل انور السادات الذي لم يخض حرب اكتوبر 1973 الا بعد طرد الخبراء السوفيات من الاراضي المصرية في العام 1972.
من الاتحاد السوفياتي الى روسيا الاتحادية، لم يتغيّر شيء في موسكو. لا يزال الرهان على الانظمة الديكتاتورية بدل ان يكون على الشعوب. الشعب السوري يتعرّض يوميا لأبشع انواع القمع، لكن روسيا لا تجد ما تفعله سوى الوقوف مع النظام بكلّ ما يمثله من تخلف ووحشية…
كانت الثورة السورية فرصة كي تظهر موسكو ان روسيا مختلفة عن الاتحاد السوفياتي وانها استفادت من التجارب التي مرّت بها في المنطقة. المؤسف انه يتبين كلّ يوم ان المقيم في الكرملين غير قادر على تغيير عاداته القديمة اكان سوفياتيا يتلحف بالعلم الاحمر مع المطرقة والمنجل او روسيا يرفع العلم ذا الالوان الثلاثة. المؤسف اكثر من ذلك، ان الشعب السوري يدفع ثمنا كبيرا للانتهازية الروسية التي لا يبررها سوى الرهان على الاحداث السورية ستنتهي بتفتيت الكيان القائم وان روسيا ستظل موجودة على الساحل السوري المطل على المتوسط عبر الدولة الجديدة التي ستقوم هناك.
جعل الاتحاد السوفياتي معظم العرب يراهنون على سراب. في ايام روسيا الاتحادية، جعل بعض العرب الروس يراهنون على ما هو اسوأ من السراب. منذ متى استطاع نظام امني الانتصار على شعبه؟ لو كان ذلك ممكنا لكانت المانيا الشرقية لا تزال حية ترزق ولكانت برلين الشرقية انتصرت على برلين الغربية وليس العكس!  

السابق
الحكومة باقية برغبة 8 و 14 آذار!
التالي
سورية.. هل بات الانقلاب العسكري وشيكاً؟