سنة على الثورة..سنة على الوجود

أنا سوريّ، دخلت القرن الواحد والعشرين وما زلت أرى العالم بالأبيض والأسود. أنا عتيق وقديم وراسخٌ في كل أنواع "الاستقرار". راسخ في الموت وجثتي تتحلّل.
أنا سوري، ولغاية السابع عشر من شباط 2011، أو لغاية الخامس عشر من آذار، أو لغاية الثامن عشر منه، كنتُ، بصفتي سوريّاً، أيّ شيء يوحي بالغبار والانسحاق والعدم. كان الخوف المطلق نصيبي من الأحاسيس في هذا العالم: أترك قوارض الخوف ترطّب روحي بتخيّلات التعذيب والموت والفناء المعنوي والمادي، ثمّ تنهشني، وتُبقي على جسمي الذي يؤدي وظائف تُوصف بأنّها "حيويّة": طرح وإفراز وهضم!
في السابع عشر من شباط؛ الخامس عشر من آذار؛ الثامن عشر منه، ارتأت بعض الأجزاء المهمّشة من روحي، ولكن تلك التي لم تضمر تماماً بعد، أنّني "ما بنذل". لم يكن لي يدٌ في الأمر، كنت فقط أتابع أمواج كرامة عربيّة على الشاشة، وكنت أطلق في داخلي ما يردّده هدير الموج ذاك: "ما بنذل".
القشعريرة التي تسري في البدن تشلّ القدرة على التحليل، والدمع الذي يغتصب العين يعطّل الإحساس؛ يدفع به إلى الذروة. هوة فارغ تتراقص الروح في فضائها. خفّة تجعل من الكلام معجزة صغيرة. فم يبدّل أمكنته بحثاً عن فكرة يقتات بها العقل. شيء يشبه النشوة، وبعدها يحوم شبح جملة فعليّة أمّام العينين التائهتين، يسارع اللسان إلى التقاطها: أريد أن أحيا بكرامة!

عام على الثوّرة؟!
بل ألف عام!
السوريّ الثائر اليوم، هو الثائر الحق. يزعم أنّ الزمن الذي يقتات عليه العالم؛ زمن الثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والأشهر والسنوات، هو زمن الموت؛ زمن مكرّس للموت. بالنسبة له الآن، يُقاس الزمن بمدى امتداد وجسارة القدرة البشريّة على الصراخ في وجه قبح العالم. يصرخ السوريّ الثائر بكل ما أوتي من غضب ودمّ وكرامة وحريّة وجسد وأفكار وأحاسيس وشهادة، في وجه العالم: يعرّيه.
هذا هو الزمن السوريّ الحق؛ زمن الثوّرة.
نكشف العالم ونكتشفه بصراخ الألم فحسب. الصراخ لغة عالميّة على كلّ حال. نكشف العالم ونكتشفه كما هو بالفعل: عالم أضاع ضميره الأخلاقي والإنساني وغفل عمّا أضاع.
للسوريّ المحاصر بالموت والنسيان والمساومة زمنٌ جديد. لا يحفلُ بمشرق الشمس ومغربها حين يجعل العالم "يستيقظ" على وقع صراخه وألمه وعظمته وشجاعته… وضجيج نصره القادم. لا يمكن لثوّرته أن تُنسب إلى سياق تاريخي إلاّ بقدر ما يمكن اعتبارها ذروة له. لا يمكن سوى للسذاجة، التي يخالطها في أغلب الأحيان الكثير من انعدام الأخلاق، أن تصف ما يقوم به سوريون أحرار بأنّه ثوّرة لإسقاط النظام. فالثوّرة السوريّة: ثوّرة العالم، وثوّرة ضدّ العالم.
يستمر الزمن المكرّس للموت في تهشيم أرواحنا. ينجح قليلاً أو ينجح كثيراً، لا يشكّل الأمر فرقاً لدينا. إنّ كانت صرختنا كفيلة في تهشيم وجه العالم نكون أدركنا حرّيتنا المطلقة، نموت وحسب. نموت من دون أن نتحلّل. نكسب حين نحرم أنفسنا عالما يعيش على الخراب؛ عالم خراب!

يتكفّل عدوّ الثوّرة، وأعداؤها الكُثر، بصناعة أسطورة السوريّ الثائر. ليس هذا الأخير ملاكاً ولا هو يزعم ذلك. وحده عدوّ الثوّرة من يسعى حثيثاً، بنجاح مقنع حتى الآن، كي يتوّحد مع الشرّ المطلق. يفعل كلّ ما من شأنّه أن يجعله متفوّقاً في الموت.
يردّد السوريّ الثائر أمراً واحداً لا أكثر: "أنا إنسان ولست حيوانا". يصرّ عدوّ الثوّرة على كوننا حيوانات. يصرّ، قولاً وفعلاً، على ما هو أكثر من ذلك: نحن كائنات ليس لنا الحق في الوجود.
عدوّ الثوّرة عدوٌ للإنسانيّة. ليس الأوّل ولن يكون الأخير. لكنّه العدوّ المطلق لها. ليس ثمّة "مشروع نازي" هنا، ولا "مهمّة تمدينيّة"، وليس ثمّة "أرض ميعاد" مزعومة. مزيج من قاتل يهوى القتل والتسلّط والنهب لأجل القتل والتسلّط والنهب. نسخة مكتملة عن الموت المتجسّد في حفنة من الأفراد الجشعين القتلة العديمي الضمير والإحساس والعقل!
لكنّ، في المقابل، ثمّة سوريون، وسوريون كُثر، يتيح لنا ما أبدوه من بسالة وشجاعة وصمود وحياة برغم الموت أن نعتبرهم كلّ سوريا التي تنحاز إلى الحياة؛ هم الشعب السوري الذي أعلن مغادرته لزمن الأبيض والأسود، زمن الموت، وأعلن عن وجوده حرّاً وكريماً.
في الأصل، ليس ثمّة وجود يستحق هذا الاسم إن لم يكن حرّاً وكريماً!

السابق
أوروبا وتجارة الأسلحة
التالي
لبنان إلى البطولة العالميّة للروبوت