سنة بعد الأزمة: عودةٌ إلى طاولة الأسد

لم تختبر سوريا أزمة وطنية كالتي تشهدها. بين الثلاثينيات والأربعينيات تنافست أحزابها للوصول إلى السلطة. من نهاية الأربعينيات إلى السبعينيات تقاسم الجيش والأحزاب النزاع. بين السياسيين والجيش، وبين الضبّاط أنفسهم، وبين الجيش والأحزاب، وبين الضبّاط في الحزب الواحد

على مرّ هذا التاريخ كان الشارع السوري يوالي الجيش أحياناً، والأحزاب والسياسيين في أحايين أخرى، ويستسلم للجيش والحزب كذلك. هكذا ظلّت كلمة نظام تختصر مرجع السلطة: عندما يكون الجيش هو النظام، وعندما يصبح الحزب النظام، وعندما يندمج الجيش والحزب كي يشكّلا النظام. ثم أخيراً عندما يختصر الرئيس الجيش والحزب والنظام في آن واحد. لكن ما يجري لسنة خلت، أن قسماً ليس قليلاً من الشارع يقف، في بلد لم يختبر الحرب الأهلية سوى مرة واحدة عام 1845، وجهاً لوجه ضد النظام والجيش والحزب والرئيس.

بعد سنة، قدّمت أحداث سوريا دليلاً على أنها تمثّل نموذج نفسها، ولا يصحّ فيها ما رافق انهيار أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن. والواقع أن الرؤوس هي التي تدحرجت أكثر منها الأنظمة التي لا تزال ـــ كلياً أو جزئياً ـــ تتحكم في هذه الدول. لم يصحّ على سوريا المصير الذي رافق الأنظمة تلك، ولا يصحّ تالياً ـــ حتى إشعار آخر ـــ تعميم الحلول التي أطاحت الرؤساء عليها. لا النموذجان التونسي والمصري اللذان حيّدا الجيش، وقادا الرئيسين إما إلى المنفى أو إلى السجن، ولا النموذجان الليبي واليمني اللذان أفضيا إلى تفكك الجيش وولوج حروب القبائل، وقادا الرئيسين إما إلى القبر أو إلى الرضوخ.
في سوريا يصنع النموذج السوري حلاً سورياً يأخذ في الاعتبار أن الجيش غير محيّد، وفي الوقت نفسه متماسك إلى حدّ يصعب، بعد انقضاء سنة من نزف يومي لقدراته، تفكيكه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس بشّار الأسد الذي أضحى استمراره في الحكم أو إبعاده عنه في صلب التجاذب الدولي والبحث عن تسوية. ورغم تآكل حزب البعث وهزال المؤسسات الدستورية واختفاء الأحزاب، ظلّ الجيش المصدر الفعلي لبقاء الرئيس والنظام. لم يعوّل الغرب على انهيار الجيش تفادياً لتكرار تجربة الجيش العراقي، ولم يبالغ في دعم الجيش السوري الحرّ وتسليحه، وعوّل على انقلاب الجيش على الرئيس بغية إسقاط النظام، وهو يسأل عن الضبّاط السنّة الكبار فيه.
بعد سنة على اضطرابات تداخل فيها التناحر الداخلي بين النظام ومعارضيه السلميين والمسلحين بانقسام دولي شلّ دور مجلس الأمن وأفقد الجامعة العربية دورها، تدخل سوريا مرحلة استنزاف لا يبدو من السهل انتصار فريق داخلي فيها على آخر، ولا استئثار قوة دولية بالحلّ دون أخرى. بل يبدو أن وقتاً طويلاً سيمر قبل توافق الدول الكبرى على تسوية دولية لا تقتصر على حمل السوريين على حوار وطني ينبثق منه نظام سياسي جديد، وإنما أيضاً على تقاطع مصالح الدول الكبرى مع النظام السوري الجديد، في ظلّ الأسد أو من دونه.
والواقع أن النظام السوري قدّم برهاناً على أنه أقوى ممّا كان يُعتقد، وأقسى ممّا كان يُظن.
من بعض عناصر قوته:
1 ـــ رغم حدود مشتركة شاسعة بينه وبين تركيا والعراق والأردن ولبنان، لم يوفر أي من هذه الدول منطقة عازلة للمعارضة، تشكل قاعدة انطلاق بظهير قوي لتواجه النظام وتقضم سيادته. وباستثناء العراق الذي تفادى مناوأة النظام وبقي على الحياد، لعبت الدول الثلاث الأخرى أدواراً تنافرت مع مواقفها السياسية المعلنة. انكفأ الأردن باكراً على أثر المعركة الأولى في درعا في 5 أيار2011، وأوقف مدّ المعارضة بالسلاح والمعلومات، وأجرى تعاوناً خفيّاً بين استخباراته والسوريين، من دون أن يتعارض ذلك مع وقوفه في وراء دول مجلس التعاون الخليجي. وخففت تركيا صوت التهديد والتهويل بالتدخّل العسكري وأقاويل مسؤوليها الكبار بأنها لن تقف متفرّجة على ما يجري، قبل أشهر على الحسم الأمني والمجازر الأخيرة، مكتفية بتبنّي المجلس الوطني والجيش السوري الحرّ من غير تمكينه من إحراز أي انتصار عسكري فعلي على الجيش، فأضحى ميليشيا اختبأت وراءها نماذج شتى من المعادين للنظام، كالإخوان المسلمين والتيّارات السلفية والمنشقين عن الجيش والفارّين منه. أمسى اسماً بلا مسمّى بلافتة واحدة هي أن قيادته في منطقة حدودية تركية. أما لبنان الذي نأى بنفسه عن الأزمة، فاضطلع بدوره بموقفين متناقضين أيضاً: رفض الجيش إقامة مخيّمات للاجئين والفارّين والجيش السوري الحرّ ومنع دخول مسلحين وتهريب أسلحة، في حين استدار تيّار المستقبل وقوى سلفية شمالية إلى تهريب أسلحة ومسلحين من طريقي الشمال والبقاع الشرقي ودعم معركة خاسرة في تلكلخ.
من دون منطقة عازلة بدا من المتعذّر على المعارضة المسلحة تسجيل انتصار عسكري حقيقي على الجيش بعد صنفين من المحاولات: أولى مفتوحة في مناطق حدودية هي درعا وجسر الشغور ودير الزور وتلكلخ والزبداني، وثانية مغلقة في مناطق الوسط كحماة وحمص.
2 ـــ بعدما أحجم شهوراً، استخدم النظام الحسم الأمني في شباط بعنف غير مألوف، لم يتجاهل في الظاهر نصائح موسكو بعدم استخدام الطائرات والمدفعية الثقيلة، بيد أنه لم يوفر مدافع الهاون والصواريخ وقذائف الدبابات لإنهاء سيطرة المسلحين على مدن رئيسية كحمص وحماة والزبداني وإدلب ودرعا. من دون موافقة موسكو، لم يسعه المجازفة بحسم أمني. وهو لم يُقدم عليه إلا غداة اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية في 22 كانون الثاني، بعدما تيقن الأسد من اقتناع روسيا بوجود مسلحين سلفيين ومتطرفين يقاتلون النظام. ثم راحت موسكو تتحدّث بإفراط عن هذا الجانب من الأزمة السورية الذي تجاهله العرب والغرب، قبل أن تفاجئ الولايات المتحدة حلفاءها في الأسبوعين المنصرمين بمعارضتها تسليح المعارضة، خشية انتقال السلاح إلى تنظيم «القاعدة».
وعلى وفرة ما يشيعه البيت الأبيض والخارجية الأميركية عن مناقشة خيارات عسكرية، إلا أن الموقف المتطابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووزارة الدفاع عن رفض تسليح المعارضة يُرجّح وجهة النظر الأميركية، مشفوعة باعتقاد مفاده أن تسليح المعارضة يقود سوريا إلى حرب أهلية. كل ذلك تحت لافتة أميركية مألوفة هي أن أيام الرئيس السوري معدودة، منذ أطلق هذا الموقف لأول مرة في 18 آب المنصرم. بيد أن للأسد وجهة نظر مختلفة: كلما تقدّم في الحسم الأمني فتح باباً جديداً على التفاوض معه.
3 ـــ لم تكتفِ موسكو بدور المظلّة الدولية لسوريا في مجلس الأمن مرتين على التوالي في 5 تشرين الأول و4 شباط باستخدام الفيتو ضد قرار يدين الأسد ونظامه، بل انتقلت، منذ اجتماع وزير الخارجية سيرغي لافروف بالرئيس السوري، إلى خط الدفاع الأول. في حصيلة اجتماعه باللجنة الوزارية العربية المكلفة ملف الأزمة السورية في 10 آذار، أعاد سيرغي لافروف مبادرة الجامعة إلى محطتها الأولى في 2 تشرين الثاني 2011، طاوياً مبادرة 22 كانون الثاني 2012 التي طالبت بتنحّي الأسد. بعدما أدلى رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بموقفه من التسوية التي توافقت عليها اللجنة ولافروف، وربط التسوية بمبادرة 22 كانون الثاني كإحدى وثائقها، ردّ لافروف في المؤتمر الصحافي نفسه بتجاهل هذا الترابط، وأعاد على المسامع البنود الخمسة التي أعادت الروح إلى مبادرة 2 تشرين الثاني: رفض العنف من أي جهة (وهو ما تخلى عنه العرب في مبادرتهم الثانية)، وآلية مراقبة محايدة (وهو أيضاً ما تخلى عنه العرب في المبادرة الثانية بإنهائهم مهمة المراقبين العرب). وبعدما سعت الجامعة العربية بين مبادرتيها إلى تقصير المهل للرئيس السوري لإرغامه على القبول بالأولى قبل أن تسارع إلى تعليق عضوية سوريا في الجامعة، تحوّل الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان موفداً عربياً أيضاً قدّم نفسه للأسد على أن دوره محايد ومستقل، وحضّه على وقف العنف والدخول في حوار والإصلاح. وهو بذلك أعاد الاعتبار إلى الحوار بين المنظمة الدولية والجامعة والرئيس السوري الذي بات مفتاح أيّ تسوية.  

السابق
إهدأ قليلاً
التالي
الشيعة والسنة في كأس العالم