أربعة أجيال بعد الملاحظة المدهشة

أراد ماوتسي تونغ نفسه منذ اللقاء الاول، حسب كيسينجر، ان يقول للرئيس نيكسون ان الايديولوجيا لا دور لها بعد اليوم

بين تقييم "جيل كيسينجر" المؤسِّس لمرحلة الانفتاح وتقييم "جيل اوباما" الواعي لمرحلة التنافس – التعاون الاميركي الصيني، أربعة أجيال
صينية في صين بدأت تضع لمساتها السياسية ولو الهادئة على النظام الدولي في ظل نجاحات اقتصادية عملاقة.هنا الحلقة الثالثة.

في كتابه – المرجع تحت عنوان: "عن الصين" الصادر العام 2011 يستعيد هنري كيسينجر في الفصل التاسع تفاصيل اول لقاء بين الرئيس ريتشارد نيكسون والزعيم التاريخي للصين الشيوعية ماوتسي تونغ، ساعاتٍ بعد وصول نيكسون ووزير خارجيته كيسينجر الى بيجينغ في الزيارة التاريخية التي افتتحت العلاقات الاميركية الصينية واسست من الناحية الصينية للانفتاح على العالم. شارك في اللقاء رئيس الوزراء الصيني شو إن لاي وكيسينجر.
ماذا لو عرف ألوف الطلاب في جامعات باريس وبرلين واسطنبول وبيروت وكلكوتا وغيرها الذين كانوا يدينون بالاعجاب والولاء لأفكار الزعيم الاسطوري انه هو نفسه في السابع والعشرين من شباط 1972، حسب رواية كيسينجر، كان يتهكم على شعار"هزيمة الامبريالية … والرجعية… وبناء الاشتراكية" (صفحة 262) خلال لقائه مع الرئيس الاميركي بينما كانوا هم يزرعون شوارع عواصمهم بهذه الشعارات تحت اليافطة الماوية الشهيرة: الثورة المستمرة. ماو ذو المزاج المرتاح في تلك اللحظات سيصدر عنه ما سمّاه كيسينجر"الملاحظة المدهشة" حين يقول لنيكسون: لقد "اقترعت لك" (ص 260) ويرد الاخير: "لم تقترع لي وانما للاقل سوءا من الشيطانين" (يقصد الصين والاتحاد السوفياتي).
لم يكن مزاحا في الفراغ طبعا. كان ماو، حسب تفسير كيسينجر، يريد ان يقول للاميركيين ان "الايديولوجيا" لا دور لها من الآن فصاعدا في العلاقات الصينية الاميركية وان ما يبدأ الآن هو تحالف صيني اميركي ضد الاتحاد السوفياتي كما يريد الاميركيون تماما.
يُسجّل كيسينجر ان الجيل الحالي في اعلى رأس الهرم السلطوي للدولة ولا سيما رئيس الجمهورية هو جينتاو ورئيس الوزراء وين جياباو هو"الجيل الرابع" اي الذي لم ينخرط بتجربة شخصية في الثورة قبل استلام السلطة عام 1949 وتولّى مسؤولياته في الدولة عبر "المسار الدستوري". واذا كان الكاتب يستفيض وبعمق في شرح النقاش الاميركي – الاميركي حول مستقبل العلاقة مع الصين فهو ايضا يعطي حيزا مهما لمعبِّرين عضويين عن الرأي الصيني ولاسيما داي بينغوو الذي يمثل أعلى تأكيدات الخيار السلمي المستقبلي للصين الصاعدة.  انه، في الواقع، نقاش غير الصينيين حول الصين وليس نقاش الصينيين أنفسهم الا بالقدر الذي يتعلق فيه الامر بالموقع الدفاعي عن التطور السلمي الثابت للصين كحصيلة لـ"التغييرات العميقة" في الثلاثين عاما الاخيرة.
هاجس "الحصار" العسكري الاميركي للصين متواصل بسبب ارث المشاكل الموروثة والعالقة. لكن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن يُجْمل "لائحتي" المآخذ الاساسية لكل من الطرفين على الشكل التالي:
شكاوى واشنطن الاساسية: العجز التجاري الكبير لمصلحة الصين- مشكلة العملة الصينية المتدنية عن سعرها الفعلي- عدم الشفافية في البناء العسكري الصيني- سجل حقوق الانسان داخل الصين- وأخيراً الفيتو في مجلس الامن.
شكاوى بيجينغ الاساسية: محاولة واشنطن احتواء الصين بمواقع واشكال جيوبوليتيكية مختلفة، خصوصا تايوان – الإنفاق المَرَضي المترافق مع استدانة عالية من الصين.
وتحدد نشرة بلومبرغ في 11 كانون الثاني 2012 قيمة ما تملك الصين من سندات الخزينة الاميركية بـ 1,13 تريليون دولار اميركي تليها اليابان بـ 979 مليار دولار.

جورج فريدمان مدير مؤسسة "ستراتفور" كتب ان ما تريده الولايات المتحدة في العلاقة مع روسيا والصين هو العودة الى مرحلة ما بعد 1991 وانه لا روسيا تقبل بذلك قطعا ولا الصين بعد تقدمها الاقتصادي. فكيف اذا كان صحيحا ما يؤكده العديد من الخبراء الاميركيين من ان الصين ترى المآخذ الاميركية عليها آتية من اميركا كقوة متراجعة تاريخيا وأن عليها، بدل السعي لوقف صعود الصين، البحثَ عن حلول داخلية لمشاكلها.
وفي ما يتعلق بالشرق الاوسط، يقول بول دِب الخبير الاوسترالي وعضو مجلس خبراء منظمة "آسيان" في محاضرته المشار اليها سابقا امام الجامعة الوطنية الاوسترالية (ANU)، فان الصينيين لا يرتاحون عندما يسمعون عن دور واشنطن كضامن وحيد لتدفق النفط من الخليج في حين يظن الاميركيون أنهم بذلك يطمئنونهم. خطوط الامداد هذه بالغة الاهمية في وصول النفط الى منطقة جنوب وشرق آسيا حيث تضاعفت التجارة في العشرين عاما الاخيرة بين دولها الممتدة من المحيط الهندي الى الباسيفيكي وباتت تمثل نصف التجارة العالمية كما يحدد مؤخرا وزير التجارة في سنغافورة في مقابلة مع "السي إن إن".

في منطقة آسيا، يضيف بول دِب، أن الصين التي تتحالف تقليديا وبشكل ثابت مع كوريا الشمالية وميانمار مقابل المحور الاميركي الذي يضم اليابان وكوريا الجنوبية لا تحبّذ عادة اتجاه واشنطن الى طرح ملفات المشاكل العالقة بين دولها حول الحدود والجزر في بحر الصين الجنوبي في اطار منظمة "آسيان" التي تضم دول المنطقة، وانما تفضّل بحثها في اطار العلاقات الثنائية بين كل دولتين. ويذكر في هذا السياق ان حجم التجارة بين الصين الشعبية وكوريا الجنوبية حليفة واشنطن التي خاضت لأجلها حربا ضارية في الخمسينات من القرن الماضي، هو اكثر مئة مرة من حجم التجارة بين الصين وحليفتها كوريا الشمالية. وهذه واحدة من مفارقات الصعود الصيني وما يبدو عدم تطابق حيوي وثابت بين العلاقات السياسية والدينامية الاقتصادية، مثلما بدت على صعيد آخر بعد الفيتو الصيني مع روسيا في مجلس الامن حول الوضع السوري المسافة بين هذا القرار السياسي والعلاقة التجارية الضخمة بين الصين والمملكة العربية السعودية التي تستورد فيها الاولى النفط والغاز والبلاستيك، وتستورد الثانية المنتوجات الميكانيكية والالكترونية والنسيج وبعضا غيرها.

يلاحظ الخبير آدم ورد في نص له في جامعة هارفرد في ايلول المنصرم ان "البسيكولوجيا الاستراتيجية" حسب تعبيره في منطقة شرق وجنوب آسيا هي "توازن القوة" بالمعنى نفسه لهذه المعادلة الذي شهدته اوروبا في القرن التاسع عشر. لكن ورد يورد الفارق التالي بين الحالتين الآسيوية اليوم والاوروبية سابقا: في اوروبا القرن19 كان هذا التوازن مصحوبا بقابلية دوله للذهاب الى الحرب في اي لحظة بينما في آسيا القرن 21 هناك تصميم على تلافي اللجوء الى الحرب. والصين نفسها في مجال الضغوط السلمية باتت تشعر انها اقل هشاشة في وضعها الاقتصادي الداخلي عما كانت عليه سابقا. مع ذلك حسب آدم ورد فالصين لا ترغب بهيكلية أمنية لمنطقة آسيا واميركا ايضا ولذلك فان الدول الصغيرة هي التي توازن بين العملاقين في ظل الانكماش الياباني والتراجع الروسي، مع استثناء الوضع الخاص للتنافس الصيني الهندي. وهو تنافس يجعل دولة مهمة في جنوب المنطقة مثل اوستراليا لا تأخذه فقط بالاعتبار في سياستها الاقتصادية بل ايضا في سياستها لاستقبال المهاجرين والطلاب (كتاب الكاتب الاوسترالي ميكايل ويسلي المذكور في الحلقة الاولى).
لهذا ربما كان أفضل ما يمكن ان نختم به هنا هو اقتباس ايضا من محاضرة قدمها في 21 تشرين الثاني المنصرم في "مركز فيربنك" في جامعة هارفرد جيفري بادِر عضو مجلس الامن القومي الاميركي والمستشار الاساسي فيه للشؤون الصينية بين العامين 2009 و2011 والذي استقال بسبب خلافات مع الرئيس اوباما حول السياسة الاميركية في شرق آسيا.
قال بادر أنه عندما يتحدث الاميركيون مع الصينيين عن "قوة الاستقرار" فهذا معناه اننا نذكرهم بضرورة الاخذ بالحسبان القوى الاخرى في آسيا: الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، فيتنام، اندونيسيا!
لكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لمنطقتنا ان جيفري بادر توقع ان تكون الصين "متعاونة في الموضوع الايراني. موقف ملتبس وانما غير متسرع".
بين تقييم جيل كيسينجر المؤسس لمرحلة الانفتاح وتقييم "جيل اوباما" الواعي لمرحلة التنافس – التعاون، أربعة أجيال صينية في صين باتت الآن اكثر ثقة بنفسها الى حد انها بدأت تضع لمساتها ولو الهادئة على النظام الدولي. لكنها لمسات دفاعية لاهجومية في السياسة والامن. والجيل القيادي الصيني الحالي نفسه، لاسيما مع نائب الرئيس الصاعد النفوذ تشي جينبنغ، مرشحٌ لتغييرات مهمة حتى نهاية العام.  

السابق
اطلاق سراح مالكي المبنى المنهار في فسوح بعد تسديدهما الكفالة
التالي
LBC: مذكرتا توقيف في حق سميح وسليمان الناطور في قضية اللحوم الفاسدة