من وحي العدوان الجديد

يثقُلُ على النفس، في هذه الأثناء، مجرد التنويه الى أي مظهر من مظاهر الخصومة، بينما المحتلون الغاشمون يسفكون دمنا. ويميل واحدنا الى عدم التركيز على ثرثرة وحيدة وقصيرة، بلسان ناطق حمساوي واحد، لم يرَ أهم ولا أحسن قولاً، في وقت القصف، من هجاء السلطة، وعلى ماذا؟! ربما لأنها لم تقصف!

النُطق الحمساوي بالمجمل، كان راشداً في هذا الخضم العسير. ولا يُلام الحمساويون على ضبطهم للنفس ولا يصح تعييرهم به. لكننا نستذكر في هذا المقام، ما يفيد وعينا حيال واقع العدوان، وأول ما ينبغي التنويه اليه، هو ترافق القصف الغاشم، مع دعوات عنصرية صهيونية لفصل قطاع غزة عن الضفة، ما يعني الشَق النهائي لوحدة الوطن، وتغيير عناصر القضية. وننبه الآن، مرة أخرى، الى ضرورة أن تتخلى «حماس» عن كل الإجراءات التي تدفع باتجاه استقلالية جغرافية لقطاع غزة، فيما يظن أصحاب هذه الإجراءات، أنها نوع من «التمكين» الذي يُنشىء جغرافيا سياسية للقطاع. إن هذه غواية. وربما يصعب على الواحد منا، القول بأن حقنا في فتح المعابر الشمالية والشرقية لقطاع غزة، هو ضمانة الارتباط بين جناحي الوطن، بحكم الأمر الواقع الثقيل. نحن لا نرغب بالطبع، في رؤية سحنات الماكثين على الجانب الآخر، لكننا نتمسك بالمعابر لأنها تحافظ على وضعية التواصل والترابط مع الضفة، مثلما يتمسك الفلسطيني في الناصرة وعكا والنقب، بالهوية الإسرائيلية كضمانة للمواطنة، وللبقاء على أرض الآباء والأجداد وفق شروط واقع آخر قديم. فلا يصح أن يقع الحكم في غزة، في غواية الاستقلالية والجغرافيا السياسية. والمتطرفون الأعداء بدأوا يلوحون بإغلاق منافذ قطاع غزة، بذريعة الأمن، لسبب في ظاهره التخلص من المنطقة، وفي باطنه كسر المشروع الوطني الفلسطيني نهائياً وتغيير قواعد اللعبة، تمهيداً لتدابير أخرى تتعلق بالضفة.

هم يعتدون ويقتلون، لكي يطرحوا على الرأي العام الدولي، موضوع غزة كبؤرة توتر وصراع تستوجب حلاً جراحياً هو البتر. ولكون التهدئة لم تترافق مع السياسة، أي لم تُستثمر من خلال خطاب يتوخى الحد الممكن من الحقوق؛ فإن المحتلين يجدون من السهل تضييعها هباءً، في كل وقت يشاؤون. ليس معنى ذلك أننا ندعو الفصائل غير المنخرطة في العملية السلمية، الى شطب وعيها بالحد الأقصى من الحق الفلسطيني، لكننا ندعوها الى التركيز على الحق الممكن، في اللغة السياسية. ولهذا التركيز فوائد تتعلق بأمن الفصائل وقادتها، دون أن ينتقص شيئاً من ثقافة هذه الفصائل. إننا نمر بظروف عصيبة، ولا تصلح الأيديولوجيا لأن تكون هي ذاتها السياسة. ففي مؤتمر الخرطوم المعروف بمؤتمر اللاءات الثلاث (في آب 1967) ويعتبره المحتلون مؤتمراً عربياً ذا قرارات متطرفة وهم الذين أطلقوا عليه لقب اللاءات الثلاث؛ نشأت الفجوة اضطراراً بين الخطابين الأيديولوجي والسياسي. ذلك عندما حجبنا الدعوة الى تحرير فلسطين، وتحدثنا عن «إزالة آثار العدوان» في العام 67 وانسحاب القوات الإسرائيلية، أي أن تعود أدراجها الى مناطق احتلال 48. قبل 67 كان الخطابان الأيديولوجي والسياسي، متطابقين على الصعيد العربي، لكن الواقع الجديد، فرض لغة جديدة!

أيضاً، ليس معنى ما نذهب اليه في هذه السطور، أن سبب العدوان هو تطابق الخطابين لدى بعض الفصائل. فللعدو أهدافه من العدوان، جئنا على ذكر بعضها في سطور الأمس. والمحتلون يسعون الى جرّنا الى واقع جديد، تنتفي معه إمكانية قيام الدولة الفلسطينية. لذا بات من الواجب أخذ الحذر، لأن أفضل ما نفعله في هذه الظروف الرديئة، هو الحفاظ على النفس، لكي لا نجد أنفسنا في لحظة، وقد أصبحنا هشيماً، وذهبت قضيتنا الى كتب التاريخ، كقضية عادلة تبدد أصحابها وتفرقوا شيعاً وأمكنة، فأحيلت الى الإرشيف. لعل هذا هو ما ينبغي قوله، من وحي العدوان الجديد!

السابق
تردي الحالة الصحية للأسيرة هناء الشلبي واضرابها يدخل يومه الـ 25
التالي
فيروز حيّة وكل الشائعات كذب