عن الفيديراليّة والمركزيّة

«إقليم برقة» والمطلب الفيديراليّ لليبيا حملا عرباً كثيرين على تنفّس الصعداء: من فمّكم ندينكم. إنّها الانتفاضات التي لا تؤدّي إلاّ إلى التقسيم وإلى «سايكس بيكو جديد». أليس لهذا الغرض تدخّل حلف الناتو في ليبيا؟!

هذه الإدانة كنّا قد سمعنا سابقاتها، صادرةً عن الأصوات ذاتها تقريباً، تستهدف الاتّفاق على «عراق فيديراليّ» بين الأطراف التي كانت يومذاك معارضة لصدّام حسين، قبل أن تحوّلها الحرب الأميركيّة أطرافاً حاكمة للعراق. أمّا في لبنان، ومنذ أواسط السبعينات، فما إن تُذكر الفيديراليّة حتّى تثور الجوقة نفسها مندّدة بـ «المشروع التقسيميّ» وبالمؤامرة إيّاها التي تخصّصت في رعايتها إسرائيل والولايات المتّحدة.

لا بأس بالتذكير بأنّ بلداناً في تنوّع الولايات المتّحدة وروسيا وسويسرا تقوم على أنظمة فيديراليّة، وأنّ بريطانيا التي تواجه مطالبة اسكتلنديّة قويّة بالانفصال، قد تستقرّ، هي الأخرى، على تسوية فيديراليّة. ولمن يعشقون قوّة الدولة يمكن التذكير بأنّ فيديراليّة يوغوسلافيا السابقة لم تحل دون القدرة القمعيّة التي تمتّعت بها الجمهوريّة الصربيّة في علاقتها بباقي الجمهوريّات.

ومع أنّ ليبيا ذاتها ظلّت هكذا، فيديراليّةً، حتّى 1963، وكان ذلك زمناً أسعد كثيراً من زمن المركزيّة والوحدويّة القذّافيّتين، فإنّ الفيديراليّة لا ينبغي أن تسري علينا، نحن العرب، لأنّنا شعوب موحّدة قلباً وقالباً لا نعرف من التناقضات الداخليّة إلاّ ما تبثّه المؤامرة الاستعماريّة فينا!

واقع الحال أنّ من ينظر في معظم بلداننا العربيّة لا يرى إلاّ التفتّت الذي يهدّد بالانفجار على شكل حروب أهليّة. فحين أتيح للسودانيّين الجنوبيّين أن يُستَفتوا، قرّروا الانفصال. وحين غدا العراق حرّاً من قبضة السلطة الصدّامية، كشف عن تباغض بين طوائفه وأجزائه لا تستطيع أميركا أن تخترعه بين يوم وليلة. ومع نيل ليبيا حرّيّتها، تظهر إلى السطح رغبة الكثيرين من أهل الشرق في تمايز ما عن أهل الغرب. وهو نفسه ما يقوله جنوبيّو اليمن، وربّما حوثيّوه، بحقّ شمالييه. أمّا المشكلة السنّيّة – الشيعيّة في لبنان والبحرين، والسنّيّة – العلويّة في سوريّة، فلم يعد لائقاً بعقل أحد، أو برجاحته، أن يتجاهلها.

وهذا لئن كثر الكلام في أسبابه المؤدّية إلى هلهلة النسيج الوطنيّ لمعظم البلدان العربيّة، فإنّ علاجه لا يتمّ بالمزيد منه، أي بالمزيد من المركزيّة التي عبّر مصطفى عبد الجليل عن تعلّقه الحديديّ بها. والحال أنّ هذا «العلاج» هو بالضبط ما اتّبعه صدّام حسين وحافظ الأسد، في 1968 و1970، ظانّين أنّ الوحدة والاستقرار لا يتأتّيان إلاّ عن كبح التعدّد في مجتمعيهما، وفي دولتيهما بالتالي.

فأغلب الظنّ، وتبعاً للتجارب التي عشنا ونعيش، أنّ الحفاظ على الوحدات، لمن يريد ذلك، لن يكون إلاّ بكسر المركزيّة وفتح الباب أمام صيغ كالفيديراليّة وأخواتها تُمتحن فيها الحياة المشتركة الجديدة.

فهذه وصفات للاستبداد الذي لا يلبث أن ينقلب حرباً أهليّة، ليس لأنّ الاستعمار يعمل بموجب «فرّق تسد»، بل لأنّ الاستعمار ذاك قد وحّد بأكثر ممّا تحتمل جماعاتنا من الوحدة. فضمّ جزء من كردستان إلى العراق العربيّ وجزء من أفريقيا إلى السودان العربيّ لا يدخل في باب التجزئة، وهي أصلاً تجزئة لسلطنة عثمانيّة لا لأيّة أمّة عربيّة وهميّة، بل هو من قبيل التوحيد الفائض.

ولسوف يكون مدعاة لكثير من الأسى والشفقة أن ندافع عن مركزيّة دولنا لظنّنا أنّ ذلك شرط لمحاربة الاستعمار وإسرائيل، فلا يلبث أن ينتهي الأمر بنا حروباً نقتل فيها بعضنا البعض.

السابق
الحياة: سليمان: نراعي القانون الدولي لحماية النازحين والقضاء أفرج عن جنود سوريين لعدم حيازتهم أسلحة
التالي
نصرالله والأوضاع السورية