الحاج أبو شوقي

من الذين سكنوا تراب هذه القرية عميقا، صنعوا تراثها وحكاياتها الكثيرة، تلك الحكايات التي لو قُدّر لبعضنا تدوينها لإحتل سدرة الأدباء، ولإحتل أمثال أبو شوقي صفحات كثيرة من هذا التراث الذي لن يغدو خاصّا بعد نشره.
الكلام في مثل (أبو شوقي) لا يصل الى القلم، وبالتالي الى المحتفين به الا بعد كثير حذر، وبعد تنكّب احتمالات السير بين فواصل الكلام، واحتمالات الحزن والدمع.. والآه المندّاة بوهج الفصحى، وان انطلقت من العامية الاثيرة في ديوان عمر(ابو شوقي)… الآه الأثيرة على قوافي الشعر العامي وعلى فن القول… هكذا تغدو الآه المنطلقة من العاميّة أسيرة الفصحى، لكن – الان- ومن هنا: آه يا (أبو شوقي).
كل كلام سيقال فيك، سيكون احتمال الوصول، أو لا احتمال..

أمس – في بنت جبيل -كان السؤال: أبو شوقي وين؟
وفي مطارح أخرى من هذا الوطن الذي يضيق على من يعرف مطارحه الكثيرة، وناسه القلة، سؤال آخر في متريت- الكورة، وأبو شوقي، أما زال يتوخى قصيدته المعهودة؟
أبو شوقي، تبّرم بالحياة وتعبها، ضجر الأمكنة التي اعتادها، وتلك التي لم يعتدها… فانساب في لقاءات الاهل والاحبة والاصحاب على هواه.. راحة وفرح، وان تكون معه على هواك في لقاء بين تعبين، نشتاق اليه بين قلقين وتعبين واحتمالات كثيرة لوفاء في الصداقة قلّ في ايامنا هذه، بل تجاسر وقُل: صار الوفاء نادرا.. نحتاج اليه بين تقلبّات شؤون العيش وثبات لا تعدُ الا بنقاء الثقة بك، بأصدقائه.. بالناس الذين يقبلون به على الصورة التي هو فيها والتي ارتضاها..
كادحا في سبيل أسرته، وبطريقة الكدح التي تتاح له، شريطة أن تُبقي ماء الوجه.. يؤمن بما تهجس به، بل ينحاز الى افكارك قبل أن تخضعها السكين للنقد. وقد يذهب مقتنعا بما فكرّت فيه الى أبعاد قصيّة …
في البدايات…آمن بروسيا الاشتراكية:

ببعتلك بكرا أعظم طيّارة وبتسافر فيها على روسيّه
والسكّ الأملح يعطي إشارة اركبو ونبسطو يا معّازيّه
وحرب 1956 أو العدوان الثلاثي على مصر واحتمال التطوع للدفاع عن بورسعيد، ورسالة عبد الناصر لأبي شوقي، ومن ثم أبو شوقي، وكما يحلو له وصف نفسه بـ(قوّال الفدائيّة):
من روسيا كلاشينكوف والبارودي صينية
وهو في كل ذلك، احتمال الشعر، والقصيدة التي لم تصل مرة الى قافيتها الراشدة.. قواف كثيرة، وأبيات وجمل، وحرف من حروف المجاهدين والمقاومين الذين حرروا هذه الارض،… كان -ابنه- الشهيد كفاح حرفه المنير، الذي رصّع مجالسه وقوله وقافيته الخفيفة الظل، وكان احتمال للشعر واحتمالات للقصيدة الأشهى في التحرير..

على حين غفلة، غادر أبو شوقي مجالس الأصدقاء الذين سعى عمره لإقناعهم بقصيدته – ولحسن حظه وحظهم – فلقد اقتنعوا بصدقه، وأقاموا للقاء معه مواعيد ومهرجان صخب، وأفراحاً…
في بهجة العيد وغصته، في اليوم الاول منه، تهاتفنا، وكنا على موعد لقاء، فيه صدق وصداقة وأصدقاء، وبعض شعر فصيح وعامي… آه..آه، ما أثقل هذه الآه التي تنتقل الآن على سنّ قلمي من العامية الى الفصحى…
واحد من الذين يكرزون بعض مواجع هذه القرية، من ذاكرتها الحيّة، يحافظ عليها، واحد من نسيم الروح الجماعية في القرية…
له يد وتعب في الجمعية (جمعية التضامن الإنمائي) وفي أُسسها، بناء وعلاقات… له يد زرّاعة في حملات التشجير.. ويد قوية في تمهيد الطرقات سبيلا للعابرين (طريق العين- طريق كرم القعقور) له، وله، وله،.. متسع من الوقت، متسع من الصداقة والراحة بين قلقين، بين تعبين… وله بيرق القصيدة التي لم تنشر..

انه جزء من ذاكرة القرية، بل هو الذي حفظ ذاكرتها ورواها…
عرف القرية قبل حدود القرية التي تعرفها بيوتنا اليوم- تلك القرية التي تعرفها اسرنا وابناؤنا، وهي لا تتعدى حدود الشرفة او النافذة او الصديق الذي نلتقيه… لقد ضاقت قرانا اليوم بمن يحملون همّها الواسع… ولما ضاقت فسحاتها، وسؤّرت مطارحها بالالقاب والانساب والعلاقات وقوائم الشطب… ولما لم يجد أبو شوقي مكانه الواسع حتى في الامكنة التي اعتادها… رحل… وعلى غفلة… جرف ذاكرتنا… فانتبهنا اننا خسرنا، خسرنا…الكثير الكثير… وانشغلنا بمن يحفر او يهيل التراب على ذاكرة الصديق الراحل… بل على ذاكرتنا التي بدأ غبار الايام يغطي حلقات التواصل، ويبعد ما بين الذي كان والذي سيكون… لأننا نحنّ الى زمن ونصنع بأيدينا غيره..

السابق
د. فضل شحيمي: عدم توافر المحيط الملائم يُعيد المدمن الى ادمانه
التالي
تقديم الساعة قد يجعلك عرضة للأزمات القلبية