سيرة مدمن… دخل عالم الموت لا إراديا ومن غير تفكير

لم يدخل عالم الموت بإرادة نفسية طبيعية وبقرار يسبقه التفكير، أحب فتاة تقربه حتى العشق، وكان متيماً بها لحدّ لا يفهمه العاقلون، شعر أنها نفسه، حياته وكل ما لديه من أمل للغد، لكنها تزوجت، نهض صباحاً ليسمع نبأ زواجها، كانت الصدمة قوية، لم يعرف ممن ينتقم؟، منها؟، من الفقر، أم من نفسه؟.
بدأ عذابه باكراً، والوجع عشش في حنايا دمه، لم يكن أمامه سوى الكحول مهرباً، لكنها لم تنفعه. في إحد المقاهي إلتقى من ينسيه وجعه ببعض حبوب، من هناك كانت رحلته مع المخدرات لحدّ الإدمان، تجربة قاسية عاشها، تململ في مرارتها، وعرف منها الكثير من المعاني. وجد الموت أمامه سبيلاً ولكنه الآن حي يرزق، ابنتاه في الجامعة وزوجته قوية الإرادة، حبه الأول لم يفارقه، ومنه كانت بداية الحديث.

الأوهام والوساوس التى ترافق المراهق، الفراغ الذي يعيش، المشاكل العاطفية والعائلية، ضعف الشخصية والثقة بالنفس، الغيرة من الشباب، إهمال الأهل وبعدهم عن المراهق، عدم المتابعة والرعاية الرسمية، وغياب دورالجمعيات الأهلية. ليست نتائج نشرة مختصة بأسباب تعاطي المخدرات، الكلمة التي لا زالت حتى الآن تنطق خطأ، ويتداولها الناس بفتح الدال وليس كسرها. هي الكلمة التي كسرت مجتمعنا في عموده الفقري، خطفت طيف شبابنا وآمالهم. الكلمة التي يهمس بها أهالي قراناً في الجنوب، وتتفشى بسرعة قياسية، أسرع من أي خبر تنقله وسائل الإعلام. نكران الأهل لتعاطي إبنهم ردة فعل أولية سريعة وطويلة الأمد، مادين بذلك يد العون لمزيد من الطمس في مستنقع المخدرات، مستنقع الجهل المستشري، وتردي الأوضاع العائلية، حتى أصبحنا كالضفادع التي لا ترى سوى فتحة البئر مقتنعة بأنها السماء.

الحديث لم يكن عاديا وأسئلتي كانت خجولة، المقابلة لم تكن سهلة مع إنسان تجرأ بالحديث عن ماضيه، تجربته المريرة التي يقول أنه قطعها من حياته، إستأصلها كمرض خبيث، يعيش اليوم بهدوء كما يبدو، ولكن بإنكسار نفسي غير واضح إلا ببعض كلمات. لم تنم عيناه عن شخص لئيم، ملامح وجهه الخمسيني لا تعلن عن ماض مليء بالمخاطر، قارب الموت مراراً وتكراراً، وضع نفسه بالمواجهة ، ولشدة الغرابة غلب الموت، ولاّه هاربا، مؤكدا أن عذابه السادي مع الإدمان أشد إيلاماً من الموت، أشدّ وجعاً.

إنتقام من النفس
لم ينسى مشهد الوجع المميت الذي يعتريه، لم ينسى رفيقه، عندما تنتابه نوبة الألم العنيف، تصبح خلايا جسده تؤلمه لحد لا يطاق، يمسك مسدساً يطلقه على فخذه، هكذا يرتاح بصورة جنونية لا تدخل منطق ولا عقل. يسرد هذه الجريمة وعلامات وجهه الهادئة لا تنم عن موقف سلبي، يقول أن الكثير من التصرفات السادية للمدمنين، كجرح بعض مناطق في الجسم، تكون إنتقاماً من النفس لا من الآخر. معظم رفاقه لم يكونوا مجرمين، حتى هو لم يدخل عالم الجريمة والقتل، إنتقامه كان سادياً، آثر وجعه على الآخرين.

يصف عالم المخدرات في لبنان بأنه من أسهل ما يكون، "الدليفري" جاهز بيوصل لعندك، وبالتقسيط المريح أيضا، تبدأ من غرام الكوكايين بمئة دولار أمريكي، يتعاطى الشاب في البداية، الأسبوع الأول كمية تقارب النصف غرام، وبعد الأسبوع الثاني تصبح غراماً واحداً، ليصل خلال شهر إلى خمسة غرامات. وعادة ما يبدأ التعاطي بالحشيشة فهي نقطة الإنطلاق ولأن سعرنصف ربع الوقية يقارب الخمسين دولار، يجعلها متاحة أكثر للشباب، الذي سرعان ما يملّها مفتشاً عن أنواع أخرى من حبوب المهدئ أو المخدر بشكل صريح، والمتواجدة في صيدليات لبنان، والتي كما يقول تغير اسم الدواء مع الحفاظ على تركيبته، وأي إنسان يمكنه بكل سهولة شراءه من دون وصفة طبيب.

مرّ بكل مراحل الإدمان وعاش اليأس والإحباط بكل معانيه، لم تخفف المخدّرات عنه أوجاعه بل زادها. تعرف بعد عشرين عاماً من التعاطي إلى زوجته، التي كان لها الدور الأكبر في ملء فراغه النفسي كما يقول، بدأ بإرادته ومساعدتها، يخفف الجرعات. حاول أن يقطع صلته بمحيطه ورفاقه، وهي المرحلة الأصعب لوقف الإدمان، لم يتركوه، كانوا مصرين على عائلتهم المشردة، لا يشرفهم أن يشفى أحدهم من الإدمان، كانوا دائماً يلاحقونه، يذكرونه بما يحتاجه دمه ومع هذا تغلب كما يقول، ترك الإدمان بعد عذاب شديد، مستقبل بناته يؤرقه، وعيون الناس تصمه بالعار. يقول: "لا أبرر لنفسي لكن معظم المدمنين هم من الناس مرهفي الحس، تجرحهم أبسط الأمور، وغالباً ما تكون شخصيتهم غير مصقولة بما فيه الكفاية، لمواجهة المتاعب في الحياة، يفضلون الهروب على المواجهة، ويكون الإنتقام من أنفسهم".

عصابة
حرقة تلاحقه حتى اليوم، ختم حديثه بما يحدث مع شبان بلدته، مؤكدا أن أبن شيخ الضيعة أدخلوه العصابة، عصابة المخدرات ومشروبات الطاقة والحشيشة، يتحسر على أعمارهم في العشرينات، مؤكداً أن هذا العالم المفتوح والغير مراقب موجود في معظم الأرياف على الطرقات، وقرب الحسينيات، وفي الأحراج لا دور لأحد ولا فضل لأحد، لا يوجد من يقوم بدوره بشكل صحيح، حتى المصحات، تردع المدمن فترة زمنية، لكنه سرعان ما يعود إلى سمّه الذي إعتاده.
تجربة أليمة يقول أنه تجاوزها، تخطاها. لكن تعابيره الباردة، تدّل على شيء. دائم المزاح والضحك، يتذكر فجأة ويهمس لي: رآها منذ فترة قريبة، تزوجت حبيبته، عندها صبيان، رأى زوجها، وجاهرهما بأنها عذاب حياته، لامها بكل ما أعطي من أسباب لعذابه ودماره النفسي. يطرق باب منزله، يفتح الباب تدخل زوجته الحجة، ترحب، تقول:" نفس وما تشتهي"، تنسف كل ما قاله لي عن عودته لسلامة صحته، عن تركه سموم المخدر، وتقول لي عند الباب مودعة: "ما تصدقي بعدو بيحن، مستحيل يترك هالسمّ".

السابق
مركزية فتح تحمل الحكومة الإسرائيلية مسؤولية إخراج عملية السلام عن مسارها
التالي
الصين تعلن ارسال مبعوث الى كل من السعودية ومصر وفرنسا لبحث الازمة السورية