جنبلاط ضرورة أم… ضرر؟

بات واضحا أن مفهوم الأكثرية، بمعناه الحقيقي، لا ينطبق على الائتلاف الحاكم الذي يضم قوى « 8 آذار» و«التيار الوطني الحر» وكتلة رئيسي الجمهورية والحكومة والنائب وليد جنبلاط، ذلك أن أكثرية لا تستطيع تأمين النصاب العددي والسياسي لجلسة نيابية تشريعية، ولا تستطيع أن تمرر في البرلمان مشروع قانون يخصها، هي بالتأكيد تشبه كل شيء إلا الأكثريات المتعارف عليها في الأنظمة الديموقراطية.
وخلافا لما صورته قوى «14 آذار» حول طابع الحكومة، يمكن القول إن تحالف «حزب الله» ـ حركة» أمل» ـ «التيار الوطني الحر» هو أقرب الى ان يكون، حتى الآن، الحلقة الأضعف في هذا الائتلاف، برغم كل القدرات المتوافرة بحوزة التحالف المذكور.
من المفيد الإشارة في هذا المجال، الى ان أحد أركان هذا التحالف ـ أي «حزب الله» ـ يشكل قوة إقليمية تشغل بال إسرائيل وأميركا وبعض العرب وتكاد تملك «الثلث المعطل» في المنطقة، بينما يترأس الركن الثاني ممثلا بالرئيس نبيه بري السلطة التشريعية بكل ما تمثله من وزن دستوري، ويضم الركن الثالث من خلال «تكتل التغيير والاصلاح» 10 وزراء وأكثر من 25 نائبا.. ومع ذلك فإن هذه «القوة الضاربة» تبدو غير قابلة للصرف، على أساس قيمتها الحقيقية، في الحكومة ومجلس النواب.

أما الثنائي نجيب ميقاتي ـ وليد جنبلاط اللذان يملكان أوراقا أقل، من حيث المبدأ، فقد نجحا في ممارسة سياسة «القضم» واقتناص الفرص، ليتحولا في العلاقة مع الحلفاء الافتراضيين الى «شريك مضارب»، بل «متضارب»، على الرغم من «الفارق الدفتري» في الإمكانيات.
وهكذا، مرّ تمويل المحكمة الدولية بين ليلة وضحاها، كما أراد ميقاتي وجنبلاط، تلاه التمديد لعمل المحكمة من دون ضجيج وتحت غطاء قنبلة دخانية رماها رئيس الحكومة بقراره تجميد جلسات مجلس الوزراء، ثم جاء مشروع قوننة إنفاق 8900 مليار ليرة ليزيد عجائب الأكثرية واحدة إضافية، بعدما قرر أحد رموز هذه الأكثرية، أي جنبلاط، تعطيل مشروعها بـ«اللي بقيوا» من نواب «اللقاء الديموقراطي» السابق، لصالح فريق «14 آذار» الذي بات يشعر، على الأرجح، انه أصبح كأقلية أقوى بأشواط مما كان عليه في زمن امتلاكه الغالبية النيابية.

وعليه، يتبين انه إذا كانت نظرية «قوة لبنان في ضعفه» قد سقطت بفعل المقاومة، فإن نظرية «قوة الوسطيين في ضعفهم» تفعل فعلها هذه الأيام، بعدما شاءت الأقدار السياسية وموازين القوى ان تضع مفتاح القرار في جيوبهم، وأن تجعل بقاء الأكثرية او سقوطها مرتبطا بمزاجهم السياسي وربما الشخصي، مستفيدين من أصواتهم الترجيحية التي لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، بانتظار المعادلات التي ستفرزها الانتخابات النيابية المقبلة.
وحتى ذلك الحين، من الواضح ان فريق الأكثرية يعاني من أزمة حقيقية، بدأت تتخذ اشكالا حادة مع تزايد «الندوب الجنبلاطية» الظاهرة على جسمه، تحت وطأة الحملة العنيفة التي يقودها رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» ضد النظام السوري، في موازاة اقترابه من قوى «14 آذار» على مستوى العديد من المسائل الداخلية ومن بينها الملف المالي، الامر الذي أطلق نقاشا محموما بين الحلفاء حول كيفية التعاطي مع «الجزيرة» الجنبلاطية الآخذة في الاتساع داخل المياه الاقليمية للأكثرية.
من ناحيته، يؤكد جنبلاط لـ«السفير» انه ما يزال جزءا من الأكثرية، «ولكننا نريدها الأكثرية المتنوعة التي تحترم الديموقراطية وحرية الرأي، أما إذا كان البعض يظن أننا بمثابة موظفين عنده، فهو مخطئ».
ويشير جنبلاط الى ان قراره بمقاطعة جلسة مجلس النواب الأخيرة يعود الى رغبته في الحفاظ على فرصة للوصول الى تسوية حول ملفي الـ11مليار دولار والـ8900 مليار ليرة، معتبرا انه يلتقي في ذلك مع موقف الرئيس نبيه بري الحريص بدوره على إيجاد تسوية ملائمة. ويضيف: أنا لست موظفا عند «التيار الوطني الحر»…

في ظل هذا المناخ، أظهر النقاش الحاصل في صفوف بعض قوى الأكثرية ان هناك اتجاهين حيال جنبلاط:
ـ الأول، يعتبر ان رئيس «الاشتراكي» ما يزال ضرورة، برغم الضرر الذي يتسبب به أحيانا، وبالتالي فإن الواقعية السياسية تقتضي استمرار التعايش معه وتحمل «جرعاته الزائدة»، حتى إشعار آخر، ولو من زاوية انه «شر لا بد منه»، ما دام لا يوجد بديل عنه في الوقت الحاضر للحفاظ على المعادلة الحالية في السلطة والتي تظل، بكل سيئاتها، أفضل من عودة سعد الحريري وفريق 14 آذار الى الحكم، لا سيما في هذه اللحظة الإقليمية والمحلية الحساسة، ومن كان لا يحتمل تصاريحه او مقالاته الاسبوعية في جريدة «الأنباء» الأسبوعية، فليتجنبها قدر الإمكان.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه ان فك الارتباط مع جنبلاط، سينسف كليا ومجانا الاكثرية الحالية، ويزيد في حدة الانقسامات الداخلية، ويحرر زعيم المختارة من بعض الضوابط بما يتيح له ان يذهب أبعد بكثير في مواقفه الحادة ويعود الى مربع العداء للمقاومة، في حين أن الإبقاء على خيط ممدود معه يفرض عليه ان يستخدم المكابح في بعض المنحدرات، ويقيم وزنا لحد أدنى من الحسابات والاعتبارات الداخلية.
ـ أما الاتجاه الآخر، فيعتبر ان كل رهان على جنبلاط هو رهان خاسر، وأنه يجب عدم التصرف كالنعامة وإخفاء الرؤوس في التراب، لتجنب مواجهة الحقيقة الموجعة وهي ان الأكثرية القائمة اصبحة وهمية ومن دون أي معنى او مضمون، ما دامت لا تستطيع تأمين نصاب نيابي او إقرار مشروع قانون محال من حكومتها، ناهيك عن ميوعتها في التعامل مع الملف السوري وهي التي تضم في صفوفها أبرز حلفاء دمشق، الامر الذي يعني تلقائيا ان الخسائر المترتبة على هذه المعادلة باتت أكبر من الأرباح.

ويعتبر اصحاب هذه القناعة ان جنبلاط تحول الى «دفرسوار سياسي» او «حصان طروادة» داخل الأكثرية، وأنه في أحسن الحالات اصبح خارجها بروحه وإن بقي داخلها بجسده، وبالتالي من الأفضل لتحالف «8 آذار» و«التيار الحر» ان يكون أقلية منسجمة من ان يكون أكثرية مفتعلة، مع ما يتطلبه ذلك من وضع حد للعبة التي يمارسها جنبلاط وقوامها: الهجوم على النظام السوري وتحييد المقاومة التي تشكل دمشق ظهيرها الحيوي.
ويعتقد هؤلاء أنه ربما كان يمكن تحمل مناورات جنبلاط في هذا المجال، لو أظهر انسجاما مع المكونات الأخرى في الأكثرية على صعيد الملفات الداخلية، أما أن يتنكر حتى للحد الأدنى من متطلبات الائتلاف السياسي، كما حصل من خلال مقاطعته الجلسة النيابية الأخيرة وتطييره النصاب لمنع إقرار مشروع الـ8900 مليار ليرة، فيدفع الى التساؤل عن جدوى مسايرته، ما دام انه يأخذ ولا يعطي، وهل تستحق حماية حالة الانتظار السائدة في البلد ـ في انتظار انقشاع الرؤية في سوريا ـ هذا الثمن الكبير؟

السابق
الكعب العالي والاظافر!!
التالي
إسرائيل أرجأت بناء الجدار إلى الإثنين