عن الاجتياح النخبوي الصيني لأوستراليا

اذا كانت هناك بلدان شاهدة على ضخامة الصعود الصيني، فاوستراليا هي احد ابرزها. هكذا تلتزم اوستراليا بمعادلة ذات جناحين يزداد احتمال تناقضهما: ارتباط اقتصادها بالاقتصاد الصيني وارتباط أمنها بالاستراتيجية الاميركية.

تكاد تصبح ضاحية كلايتون في المحيط الجنوبي لمدينة ملبورن ضاحيةً لِـ"جامعة موناش". فمع وجود مباني الجامعة الدراسية ومراكز الابحاث التابعة لها سيصبح هذا المركز الرئيسي في كلايتون، مع انه أحد فروع الجامعة الستة في اوستراليا وتحديدا في ولاية فكتوريا وأحد اربعة فروع في الخارج: ماليزيا، جنوب افريقيا، ايطاليا والهند، سيصبح أقرب الى الجامعة – المدينة الصغيرة التي تستقطب، مع وجود مستشفى الجامعة، سكن أعداد متزايدة من الاساتذة والطلاب وخصوصا الطلاب.
ربما لايحتاج الزائر ان يذهب الى داخل حرم الجامعة ليشاهد نسبة الطلاب الصينيين المرتفعة، فبمجرد التجول في شوارع "كلايتون" و في بعض الضواحي و المدن الاوسترالية الكبيرة سيلحظ عشرات الشباب والشابات ذوي المظهر الطلابي في محطات القطار او في الساحات العامة. قد تكون الظاهرة الطلابية الصينية في "جامعة موناش" أكبر من غيرها لأن هذه الجامعة الحديثة العهد نسبيا – والتي تملكها الدولة – تبنّت مبكرا ليس فقط استراتيجية الاستقطاب من الخارج باعتبارها واحدة من الجامعات الكبرى الاوسترالية ("مجموعة الثماني" كما يسمونها هنا ذات المستوى الارفع) بل ايضا تبنّت استراتيجية الانتشار في الخارج. ولهذا فإن الرقم الرسمي الذي تقدمه "موناش" عن عدد طلابها الاجمالي داخل اوستراليا وخارجها لهذا العام الدراسي هو 39 الف طالب في سنوات قبل التخرج و16 ألف طالب في الدراسات العليا.

في باحات جامعة سيدني كما في باحات جامعة ملبورن وامام مبانيهما العريقة شاهدتُ الطلبة الصينيين بأعداد ملفتة. وكان هناك بالطبع طلاب كوريون جنوبيون وماليزيون واندونيسيون ناهيك عن الجنسيات الاخرى من الهند الصينية كما من اليابان والهند، لكن الحضور الصيني على هذا الصعيدِ مسَلّمٌ بأنه الاكثف. ففي بعض الصفوف الدراسية في "جامعة موناش" قد تصل نسبة الطلاب الصينيين الى الستين في المائة ويبلغ القسط السنوي للطالب الاجنبي حوالي ثلاثين ألف دولار استرالي وقد يكون اكثر حسب نوع الاختصاص (يزيد سعر الدولار الاوسترالي قليلا عن الدولار الاميركي). لهذا ترتبط الظاهرة الطلابية ارتباطا مباشرا بالوضع داخل الصين وتحديدا بما يسمى "الصعود الصيني". وهؤلاء الطلاب يأتون اساسا من مزيج اجتماعي، احد مكوناته المهمة ابناءُ الاغنياءِ الجدد الكبارِ والمتوسطين والصغار. فتَصوّرْ عدد طبقة "الواحد بالمئة" وحدها في بلد كالصين يفوق سكانه المليار نسمة فكيف لو ارتفعت نسب الميسورين من اعلى شرائح الطبقة الوسطى الجديدة في ربع القرن المنصرم الى الخمسة بالماية مع نسبة تقديرات عامة لهذه الطبقة الوسطى لا تقل عن عشرين بالماية من مجموع السكان الصينيين.

الى هؤلاء ابناء الاغنياء والميسورين هناك الطلاب المرسَلون بمنح سواء من الدولة الصينية او الشركات او هيئات اخرى خاصة وعامة في اطار الديناميات العملاقة للنهضة الاقتصادية العلمية الصينية والتي تجعل الاقتصاد الصيني اليوم هو من حيث الحجم العام (الماكرو) الاقتصاد الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة الاميركية محتلا منذ سنوات مكان اليابان. ولهذا من البديهي الاشارة هنا الى ان الاقبال الصيني على الدراسة في الخارج والمتعدد المصادر من الدعم الداخلي لا ينحصر باوستراليا وحدها وانما هو مرتبط بكل مراكز الدراسة في العالم الغربي (وهو تقليد قديم العهد على اي حال: ألم يكن عدد مهم من قادة الحزب الشيوعي الصيني في عشرينات القرن العشرين طلابا في باريس ومنهم "شو ان لاي" الذي سيصبح أقرب معاوني ماوتسي تونغ ورئيس الوزراء). لكن الذي يميز الحالة الاوسترالية ليس فقط وجود هذا البلد الجزيرة – القارة ذات مساحة خمسة ملايين كيلومتر مربع على الحدود الجنوبية لمنطقة الهند الصينية ولبحر الصين الجنوبي وأقرب دولها اندونيسيا وانما اساسا وايضا لارتباط الاقتصاد الاوسترالي الخاص بالصعود الصيني. وهذا ينقلنا الى الموضوع الاهم في الظاهرة الصينية الاوسترالية التي تشكّل احد التأكيدات الحيوية الصينية في العالم.

الطائرة التي تقلع من دبي سيستغرق وصولها الى اول مطار في منطقة جنوب شرق آسيا ككوالامبور او سنغافورة او جاكارتا ليس أقل من سبع ساعات، وهذه كلها اول عواصم في غرب المنطقة والممتدة عميقا نحو الشرق والجنوب. من هنا فصاعدا لسنا فقط في المدى الحضاري الصيني التاريخي بل في الـ25 عاما الاخيرة… في المدى الاقتصادي الصيني. ومن هناك نحو الجنوب الشرقي ستحتاج الطائرة الى سبع ساعات أخرى للوصول الى ملبورن او سيدني. هنا نكون قد بلغنا الطرف الآخر الاكثر كوزموبوليتية من العمق الاوسترالي وبينهما العاصمة كانبيرا حيث تتعايش بشكل ناجح حتى الآن معادلةٌ بجناحين قد يصبحان متناقضين اذا كانت العلاقات الاميركية الصينية ستذهب نحو التوتر. الطبقة السياسية الاوسترالية بحزبيها الرئيسيين، العمال الحاكم الآن والمحافظ المعارض متفقة على هذه المعادلة بل تبادل الحزبان المساهمة في صناعتها مع التناوب على السلطة في العقدين الاخيرين. انها معادلة الارتباط الاقتصادي الواسع بالصين ولا سيما عبر التجاوب الشامل مع "ديبلوماسية المواد الاولية" الصينية وهي بيع الحديد والمواد المعدنية الى الصين والالتزام بالاستراتيجية الامنية والعسكرية للولايات المتحدة الاميركية.

الباحث الاوسترالي بول دِب والخبير في الاستراتيجيات الامنية لمنطقة جنوب آسيا يقول في محاضرة له اواخر العام الماضي امام "الجامعة الوطنية الاوسترالية (ANU) – مركز الدراسات الدفاعية والاستراتيجية" ان 55 بالماية من الاستراليين يحبذون وجود قاعدة عسكرية اميركية في "داروين" على الشاطئ الشمالي المقابل للارخبيل الاندونيسي والمطل على منطقة الهند الصينية. وقد تجدد تسليط الضوء على هذه النقطة بعد التصريحات الاخيرة للرئيس باراك اوباما والتي أعلن فيها تركيز الاستراتيجية العسكرية الاميركية في المرحلة المقبلة على منطقة شرق آسيا – الباسيفيك وهو ما اعتبر تشددا اميركيا جوهريا ضد بكين ساهم فيه الضغط الانتخابي وموقف الجمهوريين المتشكك من السياسة العسكرية الصينية. وحسب التصريحات التي تنقلها الصحف الاوسترالية تبدو الخلافات بين السياسيين والسياسيّات الاوستراليين ليس بين مؤيدين ومعارضين للارتباط بواشنطن بل لنسبة التأييد المطلوبة. فحتى وزير الخارجية الاوسترالي الاسبق كيفن راد الذي فقدَ قبل عشرة ايام منصبه كوزير خارجية بعد فشله في الصراع على زعامة حزب العمال مع رئيسة الوزراء جوليا جيلارد (لاسباب لا علاقة لها بالموضوع الصيني حصرا) والذي كان يعتبر المسؤول الاوسترالي الاول بل الغربي الاول والوحيد الذي يتقن اللغة "المندران" التي هي اللغة الوطنية في الصين… كيفن راد نفسه رغم اختصاصه الثقافي الصيني يُعتبر صاحب خط متشدد حيال الصين او ما يعتبره عديدون هنا "التحول الصيني الآتي نحو سياسات عدوانية في المستقبل"؟ هذا احد الاسئلة الاستراتيجية الكبيرة.
الامر الذي لا خلاف جوهريا عليه بين الخبراء الاوستراليين هو ان العلاقة الاقتصادية مع الصين كانت احد اهم عوامل النهوض والاستقرار الاقتصاديين لاوستراليا. لكن ما يؤكده ميكايل ويسلي في كتابه الصادر العام 2011: "هكذا تتغير الجيرة – اوستراليا وصعود آسيا" (منشورات نيوساوث) ان الاستيراد الصيني الكثيف ساهم في جعل اوستراليا تتفادى ازمتين ماليتين ضربت "نمور" آسيا واحدة عام 1997 – 1998 وأخرى عام 2000-2001 وثالثة اصابت الولايات المتحدة عام 2008 (وسيكون لنا لاحقا مراجعة لهذا الكتاب).

هناك سبعماية ألف صيني مُجنّس في اوستراليا في بلد يبلغ عدد سكانه الـ 22 مليونا ونيفا. أكثر من نصف هؤلاء المجنسين وُلدوا في اوستراليا وبعضهم سليل مهاجرين منذ اواخر القرن التاسع عشر. هذه الاشارة تتطلب ملاحظتين: الاولى معروفة وهي ان هذا البلد يستقبل مهاجرين من كل انحاء العالم. الثانية انه في قبوله للمهاجرين بدأ يشجع في العقدين الاخيرين هجرة النخب المالية والاكاديمية والمتخصصة. ولذلك فان ظاهرة الطلاب الآتين من الهند هي الثانية في الاهمية بعد الظاهرة الصينية التي تتقدم اساسا بديناميكيتها الاقتصادية وليس بالضرورة عدديا رغم كثافتها النخبوية المتزايدة. مع العلم ان وجود جاليات من أقليات صينية قوية تقليديا في ميانمار وتايلاند وكمبوديا واندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وفيتنام والفليبين، وهي المنطقة الشاسعة "المجاورة" لاوستراليا، يُعتبر احدى حقائق الحياة الاساسية بمعطياتها الايجابية ومشاكلها العرقية والدينية معا.

السابق
النهار: قرارات دفاعية اليوم لمواجهة حصار الضغوط
التالي
السيد حسين:لائحة ل 19 عميداً قيد الإنجاز