حين سأل طفل عن الشيخ الأسير…

كانت أعوامه السبعة تضجّ روعة وطهراً فوق ذاك المحيا المِن ضوء. كأن ملائكة كل الأديان انبثاق من قسمات الطفولة في وجهه، وكأن جنات وعود الآلهة كلها، بعض من نافذة عينيه. لم يكن ينتبه إلى متابعة والده لحدث الأحد. مع أن شاشة التلفزيون أمامه، والصوت مرتفع، حاد. مثل تأنيب قاييني، أو مثل صراخ يحاول اصطناع ألم أو أمل… أو أي محاكاة لتعبير بشري. كان يجلس قرب والده، لكنه في عالم آخر. التظاهرة صاخبة على الشاشة قبالته، لكن يديه في لعبة أخرى، تسرقه إلى كوكبه الخاص، ينسج منها مجرَّة أجمل لأعوامه، وتأسره في كون من روعة، كأنه مرآة لشفتيه…

فجأة رنَّت كلمة في أذنيه. كان الخطيب الملتحي الواقف على المنبر المستحدَث في قلب بيروت، قد بلغ حد توجيه الرسائل الوطنية الكبرى. بين صراخ عن سلاح، وشكوى من ذبح، وتهويل بجحيم… فجأة لفظ كلمة «مسيحيين». كأنها الكلمة السحرية لطفل الأعوام السبعة. كأنه أدرك أنه هو المخاطَب الآن. أوقف لعبته الإلكترونية، تحولت عيناه من بحر إلى محيط، قبل أن يرفعهما صوب الشاشة الفضية. عندما التقى ناظراه بصورة الشيخ أحمد الأسير، بدا كأنه لبس وجهاً آخر. مزيج من خوف ودهشة ونقزة ومفاجأة واستغراب. بعض الرعشة على شفتيه كشف وقع الصاعقة على ربيعه الذي لم يكتشف ربيع السلفية بعد. عضَّ عليهما ليخفي توتره، وتسمرت عيناه في الشيخ. بدا واضحاً أنه لم يفهم الكلمات. لكنه بدا أكثر وضوحاً أنه فهم من تعابير الوجه وحركات اليدين كل الرسالة من التظاهرة والاعتصام والخطاب. ظل مشدوداً إلى الشاشة، مشدوهاً بوجوهها. أفلتت لعبته من بين يديه المتراخيتين عن أزرارها. كأنه استسلم أمام صورة الكائنات «الأليينية» الخارجة عن عالمه. دقائق وانتهت الخطبة. فكان صمت ثقيل. كمن يحاول استيعاب معادلات أكثر تعقيداً من كل علومه المعرفية. عجزت أعوامه القليلة، فرفع رأسه صوب والده ليرميه بالسؤال ـــــ الصدمة: في أي بلد هؤلاء؟

مذهلة قدرة الأطفال على اختصار المفاهيم ببضعة حروف. من قال إن لغتهم بسيطة، أو قاموسهم ضحل، أو معاجمهم ضئيلة؟ بكلمات قليلة، وتعابير مباشرة، يصيب الطفل ما تعجز عنه موسوعات. في أي بلد هؤلاء؟ كلمات أربع كافية لتلخيص الصورة وتقديم المأساة وإرباك الوالد. كيف يشرح لطفله وأعوامه السبعة، أن هذا المشهد تحديداً هو من بيروت نفسها، ومن الساحة ذاتها التي تحتضن هواء دراجته وتثمل من ضحكته في آحاد أخرى؟ وأن هذا المشهد هو مجرد مسيرة للبنانيين يشبهونه، من عاصمة الجنوب الذي ينتمي إليه، إلى عاصمة الوطن الذي يحمل هويته؟

كان الوالد يُعدُّ نفسه لأعوام قليلة آتية، ليخبر طفله حين يلزم عن الجنوب وعاصمته. كان يكتب في باله صفحات عنها، ويرسمها بألوان قابلة لاستيعاب الأطفال. كان يخزّن في ذاكرته صورة صيدا الحارة المتداخلة مع صيدا ـــــ القناية، وصورة المدينة المسلمة المطمئنة في هدأة عبرا المسيحية وتحت عيني سيدة المنطرة. وكان يعزم التمهيد بكلام عن صيدا مار الياس والمطرانية، وصيدا الأدبيات البيبلية الغزيرة، في ظل المآذن. وكان ينبش من طفولته السحيقة ذكرى يوم قضت ابنة الكبير «معروف القلعة» في حادث سير في جزين. حيث كانت، مثل مئات عائلات صيدا، تقضي أشهر العنب المذهب على رذاذ شلال الجيرة الطيبة. وكيف بكت جزين يومها، وكيف أقفلت من البيادر إلى المعبور، ومشت قوافل سياراتها لتقبل التعازي بفقيدتها في صيدا…

وكان يستعد الوالد ليمسك بيد طفله فيدخل معه إلى تاريخ وطنه، من بوابة صيدا إلى ساحة بيروت، كما على درب صيداويين عظيمين: رياض الصلح ورفيق الحريري. فيحكي لطفله كيف انطلق الأول من بساتين الليمون إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، ليرسم استقلال البلدين، شعبين ودولتين وسيادتين. وكيف صار كل رفاقه السابقين في «الكتلة السورية» يشكون انقلابه عليهم وانحيازه إلى لبنانيته ورفضه أي تنازل عن حرف واحد من حروف بيروت من أجل دمشق. وكيف كرر التجربة بعد نصف قرن صيداوي آخر، اسمه رفيق الحريري. عرف كل جنسيات الأرض، لكنه مات لبنانياً، بعدما عشق بيروت على حساب كل العواصم، وبعدما نقل أهلَ بيروت وطرابلس وأهله في صيدا، من «سوريتهم» ومن «مصريتهم» ومن «فلسطينيتهم»، إلى تلك اللبنانية الساحرة كما عرَّفها منح الصلح…

خربط الشيخ الأسير كل كتاب التاريخ الصيداوي في رأس الوالد، تماماً كما نسف كل سفر جغرافيا الوطن في عيني الطفل. لم تبق في بديهة الرجل غير محاولة يتيمة للتفسير والطمأنة: نحن أيضاً عرفنا تلك التجربة. نحن أيضاً كنا أسرى أفكار مقابلة. قبل أن ندرك أن الإنسان هو الأكبر من أي غيب، ونكتشف أن هذا اللبنان أطهر من أي تجريد. فاطمئن يا بني، والعب لا كما يلعبون…

السابق
اوهام فضل شاكر… غريبة !!
التالي
يوسف: المعارضة لا تمانع من ان تتقدم الحكومة بمشروع قانون حول الإنفاق