كل الألاعيب القذرة 

مساء الخميس، في الثامن من أيار العام 2008، كان هناك من يحاول دفع مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني الى اقامة صلاة الجمعة في ظهيرة اليوم التالي في مسجد محمد الامين في الوسط التجاري، فيما كان الكل يلوذ بمنزله، خصوصاً قيادات تيار المستقبل، فيما السفير السعودي حينها يتأهب للفرار بحراً الى خارج البلاد.
يومها كان البعض يفترض ان نزول قبّاني لاقامة الصلاة لن يمرّ دون تعرّض سيارته لاطلاق نار، او بالحد الادنى منع من العبور في الشوارع المغلقة، مما يؤجّج المشاعر المذهبية، ضد اولئك الذين قال المفتي عنهم في ذاك العراك انهم «يحتلون بيروت ». لكن لحسن الحظ، نجا المفتي يومها من كمين اهل بيت المستقبل، الذين لم يتورعوا عن التخطيط للتضحية بأي كان من اجل مزيد من التأزيم.
لم يبخل المفتي على تياره المفضل في ذلك الزمن بأي شيء، معرّضاً نفسه للكثير من الاهوال. خاصم القريب والبعيد، ورفع عدد اعدائه، من الطائفة وخارجها، ومن محيط المشايخ، وزاد الطمع لدى الطامحين باحتلال منصبه. لم يترك عدد من المفتين كلمة الا وقالوها بحق مفتيهم الاكبر، وهم يطمحون الى تقوية نفوذهم على حساب نفوذه، ومن معين تيار المستقبل دائماً، لكونه المعتمد دولياً ممثلاً للطائفة. لكن المفتي حينها لم يغير الكثير من مواقفه، رغم ان الحصار الداخلي كان يشد الخناق حول رقبته.
ذهب سعد الحريري الى سوريا، تصالح وليد جنبلاط مع النظام السوري، وتُرك المفتي وحيداً ومعزولاً في لعبة كبيرة من الاعيب الساسة اللبنانيين الصغار، ولم يلتفت اليه احد، بل على العكس، كان هناك من يعامله طوال الوقت وكأن عدم وجوده اكثر فائدة من وجوده، اللهم الا اذا تمكن من رفع مستوى التحريض بين الشباب المتحلقين حول تيار المستقبل، والمستعدين للموت من اجل رفع مستوى ثروات الاثرياء، وابقاء سيطرتهم على البلاد.
في هذا الوقت كان اهل بيت المستقبل هم من يسربون الملفات حول الصفقات المالية التي قام بها نجل المفتي، مع تشديد الخناق على الشاب، الذي لم يأت بما اتى به اي من اهل تيار المستقبل، او ابنائهم او محظييهم. كان هناك في المستقبل من يرغب بشدة بالامساك بالمفتي من عنقه طوال الوقت، واضعافه بغية التأكد من انه لن يتفلت يوماً ما.
وحين ذهب المفتي للتعزية بوفاة العلامة محمد حسين فضل الله قامت الدنيا ولم تقعد، فقد اخذ مبادرة من دون مشاورة الرئيس فؤاد السنيورة والشيخ سعد الحريري او مراجعتهما. وبدأت حرب ضروس على مفت لم يعد لديه الكثير ليخسره، اذ ان ولايته ستنتهي خلال عامين، وكلما اقترب من نهاية ولايته تحرر اكثر فأكثر، بعدما حاول العديدون اغراءه بأن يكون منصب المفتي مدى الحياة على عهده هو، واليوم بات هو يعتقد بأن المنصب يجب ان يكون مدى الحياة، ولكن لمن يليه، لتعزيز موقع الافتاء.
ما يتعارف عليه اليوم باسم «الملف المالي» الذي يلوح به فؤاد السنيورة كل حين امام المفتي هو في الحقيقة لا يشكل خمسة في المئة من ملفات الفساد التي تدين كل طقم تيار المستقبل. الفرق الوحيد ان من سرب ملفات تلزيمات ابن المفتي لم يسرب باقي الملفات، وهي محمية بموجب السرية المصرفية بكل الاحوال، وبموجب التورط المتبادل، وحسن السيرة والسلوك لهذه الشخصيات، المتمثل بالاخلاص المطلق.
اما ملفات ابن المفتي فيمكن وضعها في خانة «سوء التلزيم » بدل ان يضعها اهل تيار المستقبل في سياق الابتزاز المباشر، والطلب من المفتي توقيع شيكات بدل اموال تسد هنا وهناك، وسعي حثيث لإخضاع المفتي سياسياً، ومن بعدها، وعقب اليأس من تحول في موقف المفتي، طرح مفت بديل ولو بقي المفتي الحالي في موقعه.
هناك في رئاسة الحكومة، الحالية والسابقة واللاحقة، من سيسر بتدمير امبراطورية دار الفتوى، الامبراطورية المبنية من مؤسسات وبحماية علماء دين يرتدون لفات ويسيطرون على حجم مالي وعقاري واداري هائل في الطائفة. ويمكن لأحدهم ان يعصي الحالة السياسية ويعمل وفق ضميره بين الوقت والآخر.
وحين امتنع مفتي الجمهورية عن محاصرة نجيب ميقاتي اول ايام تكليفه تشكيل الحكومة جن جنون اهل تيار المستقبل، وبدأت الحرب الضروس ضد سماحته، ولم توفر وسيلة سياسية او حتى امنية، ولا اي اسلوب بلطجي بما فيها الاعتداء المباشر على بعض علماء الدين، وصولا الى ابن المفتي.
نجيب ميقاتي لم يقابل حماية المفتي له بحماية مقابلة، اكتفى بايجاد مخرج «وسطي» جرياً على عادته التي اصبحت اقرب الى الايديولوجيا، وبقي المفتي حتى اللحظة تحت ضغط اهل تيار المستقبل الذين يريدون الضغط على ميقاتي واتخاذ موقف شرعي مما يجري في سوريا، والتأهب لقيادة سنة المنطقة، ومنع تسرب المشايخ الى مواقع نقيضة للمستقبل في الانتخابات المقبلة، كل ذلك بموقع الافتاء، وإلا فليذهب الموقع بأشد الاساليب قذارة.  

السابق
محاولة جديدة لوضع اليد على لبنان!
التالي
وزراء بسمنة وزراء بزيت؟!