تناقض للمستقبل

أطلقت الانتفاضات العربيّة تيّارين عميقين في واقع بلدانها، وربّما في الواقع العربيّ على عمومه: تيّار الحرّيّة وتيّار الدين. ولهذين موقعاهما في مسار كونيّ بدأ يصعد بعد ضمور «المعسكر الاشتراكيّ» و «حركة التحرّر الوطنيّ» وحروبها، وبعد تآكل المعاني القديمة لـ «الثورة».

فالحرّيّة بدأت ترفد «الثورة» بجزء من تعريفها الجديد مع ظهور العولمة وثورة الاتّصال، ومع انزياح السياسة نحو الاجتماع والقيم ممثّلاً بصعود مسائل «حقوق الانسان» و «المجتمع المدنيّ». وقد جاءت القفزة الكبيرة الثانية للحرّيّة مع انتفاضات أوروبا الشرقيّة والوسطى، أوائل التسعينات، التي جعلت من السلميّة وسيلة حصريّة للثورة، كما جعلت من الديموقراطيّة هدفاً حصريّاً لها.

وبدوره فالدين، هو الآخر، شقّ طريقه إلى المعنى الجديد لـ «الثورة» مع رعاية البابا يوحنّا بولس الثاني الثورة البولنديّة في 1979، وقيام الثورة الإيرانيّة الخمينيّة في العام نفسه، فضلاً عن ظاهرة «المجاهدين» الأفغان ضدّ السوفيات التي ولدت في الفترة ذاتها.

وليس من الصعب، مع الانتفاضات العربيّة الراهنة، التدليل على هذين البُعدين النافرين فيها، واللذين زادهما تنفيراً أنّ البيئة الدينيّة هي، في بلدان الأنظمة العسكريّة، أكثر البيئات معاناة من الظلم وامتناع الحرّيّة. بل ربّما جاز القول إنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة التعايش الصعب والصراعيّ بين البُعدين هذين اللذين ربط بينهما شهر عسل طويل بدأ مع تعطيل الانتخابات الجزائريّة في 1990.

والتعايش الصعب هذا هو ما تنمّ عنه أوضاع مصر وتونس حاليّاً، بل هو ما نراه يتجسّد في الانتفاضة السوريّة التي لم تنتصر بعد. هكذا نسمع هيلاري كلينتون تجمع، مثلاً لا حصراً، بين تأييد الثورة وبين الخوف من «القاعدة» و «حماس».

ما من شكّ في أنّ الحرّيّة، في المستقبلين القريب والأبعد، ستكيّف الدين كما أن الدين سيكيّف الحرّيّة. وهذا التكييف المتبادل والصراعيّ سيترك تأثيره العميق في وجهة المنطقة. ويُستحسَن، في المعنى هذا، أن تمتلك قوى الحرّيّة إدراكاً أكبر للتحدّيات التي ستواجهها، وأن تُرفق إدراكها بتنظيم أكبر يتيح لها أفضل شروط المواجهة.

لقد ظهرت حتّى الآن أصوات تدين الانتفاضات لأنّها دينيّة ولأنّها، بالتالي، تمثّل تهديداً للحرّيّة. والعيب الأبرز الذي تنطوي عليه النظرة هذه أنّ الاستبداد العسكريّ «الحديث» مصدر الخنق الراهن للحرّيّة ومصدر تهديدها الراهن، بل هو أحد أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تعاظم دور الدين تحت الأرض، قبل أن تنقله الانتفاضات إلى السطح المعلن.

مع ذلك، فإنّ النظرة الأخرى التي تستخدم إنجاز الحرّيّة، وهو كبير حقّاً، كي تقلّل من شأن الخطر الدينيّ، لا تبدو أشدّ إصابة.

فالحال أنّ الحرّيّة، ما لم يتمّ إكسابها مضموناً حديثاً وتقدّميّاً، انتهت رصيداً آخر في حساب الدين أو في حساب الفوضى. وقد سبق أن شاهدنا كيف انتهت الحركات الأولى التي واجهت الوفادة الاستعماريّة بحرّيّة الجماعات الأهليّة (ثورة العشرين، سلطان الأطرش، العصابات الجنوبيّة…) تصليباً لمشاعر الاعتزاز الأهليّ الدينيّ والمذهبيّ. كما رأينا أخيراً كيف تولّت الهويّات الطائفيّة تبديد الحرّيّة التي أتيحت للعراق بعد تخليصه من الاستبداد.

وقد يجوز القول إنّ طلب الحرّيّة طلب شعبيّ وجماعيّ يصعب قرنه بمطالب الجماعات «القطاعيّة»، نساءً أو أقليّات أو مثقّفين ومبدعين، إلاّ أنّ افتراض الأسوار الصينيّة في جدول الأولويّات لن يكون خدمة تُسدى إلى الحرّيّة، وهو طبعاً لن يساهم في تحويل الجماعات والأفراد إلى بشر أحرار يشاركون في صنع هذا العالم.  

السابق
الحياة: سليمان وميقاتي يدعوان الى حقبة جديدة ويشددان على سلوك الوزراء وتضامنهم
التالي
ماذا تفعل طائرات التجسس فوق سوريا؟