مَن الرابح ومَن الخاسر من الأزمة الحكومية؟

اما وقد طويت صفحة الأزمة الحكومية الأخيرة فان ثمة في الأوساط السياسية من لا ينظر اليها بعين التشاؤم، فهي رغم أنها عكست مدى "العطب" المصابة به الأكثرية الحالية، ومدى تباعد الرؤى والحسابات بين افرقائها، وهو أمر لم يشكل عنصر مفاجأة للذين واكبوا عن كثب عملية استيلاد الحكومة قبل نحو عشرة اشهر وظروف هذه الولادة العسيرة، فان نهاية الأزمة على النحو الذي شهدناه منذ أن استضاف رئيس مجلس النواب نبيه بري اواخر الاسبوع الماضي رئيس "تكتل التغيير والاصلاح" النائب العماد ميشال عون الى اول من امس، شكل انفراجاً لكل الأطراف التي مدّت يدها لتكون طرفاً مباشراً أو غير مباشر في هذه الأزمة التي دامت نحو شهر، وخطَّت الجملة الأولى في كتاب مرحلة سياسية جديدة حملت في بعض طياتها عناصر مفاجأة، ووضعت خطوطا عريضة لقواعد لعبة سياسية جديدة ستتبدى في القريب العاجل.

فعلى المستوى الأول، بدا جلياً ان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كان ابرز الخارجين بربح معقول من براثن الأزمة التي بادر هو الى تفجيرها عندما ضرب بقبضة يده على طاولة اجتماعات مجلس الوزراء في قصر بعبدا معلناً تعليق جلسات مجلس الوزراء في حركة احتجاجية شاء أن تكون لها اصداء مدوية عبر المكان والزمان. ووجه من وجوه الربح لا يقتصر فقط على خروج الوزير المشاكس الذي شكا منه ميقاتي مراراً والذي كان له بالمرصاد دوماً في جلسات مجلس الوزراء، يؤدي توقفه عند كل نقطة وفاصلة الى اطالة أمد الجلسات على نحو غير مألوف، بل إن الربح كان ايضاً في انتهاء الازمة نفسها لأن استمرارها أكثر فتح العيون على جانب سلبي هو لادستورية تعليق جلسات مجلس الوزراء التي عدّت سابقة غير مطروحة تعطل امور البلاد والعباد. ولم يعد خافياً أن تحول الأزمة كلها الى ناحية واحدة فقط هي امتناع وزير العمل عن التوقيع على مرسوم بدلات النقل، ساهم في صرف الانظار عن جوهر القضية، في اتجاه آخر ستَّر على العيب الأساسي المتمثل في تعطيل جلسات مجلس الوزراء من دون سبب مقنع حسبما قال الرئيس بري.
ولم يعد خافياً أن ثمة تساؤلات بدأت تكبر عن حقيقة الأسباب التي دفعت بالرئيس ميقاتي الى سلوك هذا الطريق الوعر (تعطيل جلسات الحكومة) وما اذا كانت لها ابعاد تتعدى مسألة "نزاعه" الدائم مع وزراء "تكتل التغيير والاصلاح" وهو نزاع واكب الحكومة منذ انطلاق قطارها.
واذا كان لا خلاف على ان العماد عون قد خرج من هذه الأزمة كخاسر اكبر، لا سيما وقد تجلى بصورة القاصر عن المضي قدماً في شعار الاصلاح ومحاربة الفساد ومخالفة القوانين وهو الشعار الذي يتوسله دوماً رافعته الاساسية في الحياة السياسية وفي منازلة الخصوم وذلك عندما اضطر في نهاية المطاف الى التخلي عن وزير العمل شربل نحاس الذي صار في نظر شرائح واسعة من القواعد الجماهيرية للعماد عون وقسم كبير من الرأي العام الشبابي، رمزاً لـ"الاستشهاد" في سبيل مبادئ الاصلاح والدفاع عن حقوق المستضعفين وذوي الدخل المحدود، وانضم الى قافلة الذين نجحت منظومة المصالح والتسويات في اقصائهم عن سدة المسؤولية الى صف المعارضة، فان ثمة من يرى ان العماد عون خرج من هذه "المعركة" بقناعات جديدة وبعزم على الشروع في أداء جديد قد يتخلى فيه عن كثير من "مثاليات" المرحلة الماضية، والاقتراب اكثر من "واقعية" وخصوصيات العمل السياسي في "نسخته" ومفاهيمه اللبنانية، التي تسمى عادة بلغة السياسيين المحترفين "الواقعية" و"البعد عن عالم المثل واليوتوبيات". ولا ريب أن ثمة في أوساط المقربين من مناخات رئيس مجلس النواب ومن "حزب الله" من بدأ يتحدث عن مكنونات "التفاهم" الذي تم في لقاء عين التينة الاسبوع الماضي والذي جمع بري وعون، ومراميه القريبة والبعيدة، على نحو شرع هؤلاء معه في الحديث عن انتهاء مرحلة "حليف الحليف" لتبدأ مرحلة الحليف المباشر، الذي ستخاض واياه جملة قضايا حاضرة ومستقبلية سيكون من ابرزها ما يتصل بقضايا الطاقة والنفط.

وفي موازاة ذلك يبدو رئيس الجمهورية ميشال سليمان رابحاً بشكل أو بآخر، وإن كان ربحه معنوياً اكثر منه شيئاً آخر.
فمعلوم أن سليمان دخل على خط الأزمة وهي في منتصفها وساهم في تحويرها وحرفها باتجاه محاصرة الوزير نحاس، وهو كان أول من رفع لواء الدعوة الى ابداله بوزير آخر، أو رحيله عن الحكومة. وفي العموم بدا سليمان مسجلاً نقاطاً عدة على العماد عون الذي كان المبادر الى تصعيد المواجهة معه، علماً أنه لن يظل بالضرورة الكاسب على المستوى البعيد. فثمة معلومات تحول دون ايجاد روحية لصرف هذا الانتصار الذي حققه في الحسابات السياسية العملية.
ولا شك في أن ثمة من يجد رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط رابحاً مع الذين خرجوا بأرباح من المواجهة التي دارت رحاها في مجلس الوزراء، فهو استهلالاً ربح من خلال التزام وزرائه سياسة النأي بالنفس عن التجاذب الذي حصل، انفاذاً لتعليماته، رغم أن البعض كان يضعه في خانة الوسطيين التي تضم الى ميقاتي الرئيس سليمان. وسياسة النأي هذه لها صلة بحسابات جنبلاط الداخلية الدقيقة والتي يرغب معها في أمرين اثنين اساسيين بالنسبة اليه:
– المحافظة على الحكومة والحيلولة دون انفراط عقدها.

– ارسال رسالة الى "حزب الله" تفيد أنه ما انفك ملتزماً معه مندرجات التفاهمات القديمة.
أما الرئيس بري فهو "شيخ" الرابحين بلا منازع وباقرار تام من الجميع. إذ اضافة الى ظهوره بمظهر "المنقذ" للعماد عون من "المأزق" الذي افتعله خصومه ضده وذهبوا بعيداً في تضخيمه والاستفادة منه، خرج بري بصورة "النازع للصواعق" من أمام هذه الحكومة والمخرج للجميع بلا استثناء من لجة الأزمة التي اندفعوا طائعين ومكرهين اليها.
والذين هم على تواصل مع رئيس المجلس يعرفون ان الرجل بدأ يفكر في ما يتعدى اللحظة الحاضرة، واستطراداً شرع في التفكير في مرحلة الانتخابات النيابية وما يتداعى عنها من حسابات. وثمة من يتساءل بإلحاح عن موقع "حزب ا لله" في ميزان الربح والخسارة. ورغم أن الحزب نأى بنفسه كثيراً عن الصورة بعد تفجر الأزمة الحكومية ولم يحضر فيها بقوة وبدا أحياناً وكأنه ترك حليفه (أي عون) يواجه مصيره لوحده، فان هناك من يجرؤ على اعتبار الحزب في طليعة الرابحين، فتحت جنح الأزمة مرت مسألة تمديد بروتوكول المحكمة الدولية بالطريقة التي مرت فيها (اخذ العلم من جانب رئيس الجمهورية) وهي ستكون على البعيد نقطة لمصلحة الكارهين للمحكمة والمتوجسين منها شراً.

فضلاً عن ذلك، يبدو جلياً ان الحزب يستفيد من خلال بقاء حكومة ميقاتي، وهي الحكومة التي يعتبر البعض انها ولدت بفضله وعلى يديه، عندما وجه الضربة القاضية لحكومة الرئيس سعد الحريري وأسقطها.
– وفي جانب آخر، ثمة من يرى ان فريق 14 آذار بدأ وكأنه "شريك مضارب" في الحكومة، فهو مستفيد أول على المستوى السياسي والاعلامي من الالغام التي تنفجر تباعاً في داخلها، تبيح لرموزه ان يشيروا دوماً بأصابعهم الى انها باتت عبارة عن "أزمة دائمة" انفاذاً لما كانوا دوماً يرددونه منذ خروجهم هم من دست الحكم. ولكن تجربة أول من امس في مجلس النواب أكدت ايضاً انهم لا يستطيعون طلاقاً بائناً مع هذه الحكومة بدليل انهم يصرون على الحصول منها على براءة ذمة عن مرحلة كانوا خلالها أسياد الحكومة، فضلاً عن ان لهم مصالح دائمة يومية مع هذه الحكومة، لذا يضطرون بين فينة وأخرى الى اللجوء الى رئيسها وعدد من وزرائها متخلين عن مقاطعتهم لها والتي أعلنوها سابقاً.  

السابق
ما الرسالة من وراء تعيين جريصاتي؟
التالي
هل يمكن أن يشرعن ضربة إسرائيلية لإيران؟