عون مش مفكّر حاله أفلاطون

في اجتماع تكتل التغيير والإصلاح الأخير يوم الثلاثاء الماضي مرّت عينا رئيس التكتل النائب ميشال عون مراراً على الكرسي الشاغر الذي كان يشغله الوزير المستقيل شربل نحاس، لكنها لم تطل ولا مرة المكوث عند ذلك الكرسي. فحول طاولة التكتل كراسيّ كثيرة تستوجب توقف الجنرال عندها

حول طاولة التغيير والإصلاح في الرابية ثمة كرسي يشغله منذ دورتين انتخابيتين رجل يدعى يوسف الخليل. لا هو مفكر اقتصادي ولا مناضل نقابي ولا خطيب سياسي. في كسروان يسمونه «نائب السماعة». عشية انتخابات 2009 خلصت كل الدراسات الانتخابية التي أعدتها الرابية إلى أن هناك مجموعة ناخبين في كسروان تقدر ـــــ على نحو غير طبيعي ـــــ للخليل معاينته الطبية لها مرة من دون مقابل، ويدفعها مبدأ «ردّ الجميل» إلى ترجيح كفة فريق سياسي على آخر. استقبل العماد عون يومها وفوداً شعبية أتى بعضها يقول إنه مع الإصلاح والتغيير، شرط أن يكون لآل الخليل ـــــ وهم من العائلات الكسروانية الكبيرة ـــــ مقعد فيه، فيما اشترط بعض آخر أن يكون لآل الخازن مقعدهم أيضاً، وكذلك الزوينيون. كان يوسف الخليل في اجتماع التكتل الأخير صامتاً كالعادة، ومتفرجاً. كان قلب الجنرال على كرسي نحاس وعقله في كرسي الخليل.

المشكلة بالجنرال أم بالناخب الذي لو خير في كسروان مثلاً بين أفكار نحاس الاقتصادية وسماعة الخليل لاختار السماعة؟ فَكّر الجنرال كم كان يفضل لو كان جيلبير سلامة الذي نشط في التيار الوطني الحر نحو عشر سنوات في كلية الحقوق والعلوم السياسية أو روك مهنا أو جورج دغفل هو الجالس أمامه بدل يوسف الخليل الذي لا يمثل أكثر من بقايا إقطاع عائلي و… طبي. لكنه الناخب ـــــ لا عون ـــــ الذي يفضل سماعة الطبيب على نضال الشباب، وعائلة الطبيب على حماسة سلامة ومهنا ودغفل للإصلاح والتغيير. بعد حسابات الربح والخسارة، فهم الجنرال أنه سيربح معركة مبدئية ويخسر حرباً، فاختار (عبر يوسف الخليل بدل أي ناشط في التيار) خسارة معركة على أمل أن يربح الحرب. لو لم يختر يوسف الخليل وجيلبرت زوين لخسر مقاعد كسروان لمصلحة 14 آذار، ولو لم يختر التسوية في الحكومة لخسرها لمصلحة تيار المستقبل.
لا، لم يكن نحاس أول اختبار يخوضه الجنرال. الاختبار الأخير أسهل مما سبقه. اليوم فضل استمرارية الحكومة على انفجارها وعودة تيار المستقبل إلى السلطة. في السابق، خيّر بين أبناء تياره الذين هم بمثابة أبنائه، وبين وجهاء مناطقيين أقل ما يصفهم عون به، بحسب عارفيه، هو: وصوليون هامشيون تافهون يفترض اقتلاعهم من جذورهم من الحياة السياسية. تعود عينا عون إلى كرسي نحاس. ألا يحلم الجنرال لو لم تشب خطاب تياره العلماني كل الهفوات المذهبية التي تشوبه منذ ست سنوات؟ بلى طبعاً. ألا يحلم لو يكمل في عهد البطريرك بشارة الراعي ما بدأه في عهد سلفه نصر الله صفير لناحية محاصرة بكركي بالدعوات إلى كفّ الدين عن التدخل في الدولة؟ بلى طبعاً. ألا يحلم بأن يزجّ فؤاد السنيورة في السجن، ويفتح حسابات آل الحريري الخاصة لتسترد الخزينة العامة ما نُهب منها، وينفي سهيل بوجي وأشرف ريفي ووسام الحسن وسعيد ميرزا وعبد المنعم يوسف؟ بلى بالطبع. ألا يحلم بأن يكون نحاس حاضراً اليوم وسطهم ويضحكون جميعهم لخروج التظاهرات الشعبية وانتفاض القضاة نصرة للقانون وتحرك مجلس النواب ليفرض على رئيسي الجمهورية والحكومة السير بـ«توجيهات» شربل؟ ألف بلى طبعاً. لكن المسافة شاسعة بين الأحلام والوقائع. الشعارات شيء والوقائع شيء آخر.

الوقائع تقول إن كسر أمين الجميل في المتن يفرض التحالف الانتخابي مع ميشال المر، ليس حباً من عون للمر، بل لأن الناخب أثبت أنه غير مستعد للقتال مع عون في معركته لكسر الاثنين. اختار عون كسر الأسوأ اليوم والسيئ لاحقاً. الوقائع تقول إن مواطناً واحداً من خارج التيار الوطني الحر لم يلتفت بين عامي 1992 و2005 ليقول إن هذا الرجل ـــــ عون ـــــ محق في ما يكتبه من منفاه الباريسي بشأن الحوت الحريري والأزمة الاقتصادية التي تنتظر البلد. الوقائع ـــــ وعون يحترمها ـــــ تقول إن الجمهور يقتنع بما يقوله عون عن عبثية خيارات سمير جعجع المسيحية حين يكون البطريرك هو المتحدث لا عون. فتّشوا عمّن حتم على عون الرضوخ للتسويات. منذ عودته من باريس يمثل عون مسيحياً الصوت المعتدل الذي لا يريد لطائفته والبلد الذهاب إلى حروب عبثية. ترك عون لسمير جعجع أداء ذلك الدور. يمثل عون مجتمعاً أنهكته الحروب العبثية والقيادات الأساطير والأحلام التي يدفع ثمنها الشباب هجرة وبطالة. يقدم عون نفسه بصفته الزعيم الذي يمسك قلماً وورقة ويحسب بدقة كلفة كل خيار ينوي اتخاذه بالنسبة إلى مجتمعه. كثر ممن لم يحبوا ميشال عون 1988 أحبوا عون 2005، بدا لهم أكثر واقعية وأقل جنوناً.

الوقائع تفيد بأن قرب كرسي نحاس حول طاولة التكتل ثمة كرسي تشغله جيلبرت زوين. خلال سبع سنوات لم تبق نهفة عن زوين تخطر في العقل إلا حملها الثرثارون إلى الجنرال ليضحكوه بها، لكنه عند كل بحث انتخابيّ جديّ كان يصدم بامتلاك زوين كتلة ناخبة متماسكة تُجير النائبة الكسروانية أصواتها كما تشاء. قرب زوين يجلس فريد الخازن. تتنقل عينا الجنرال بين الاثنين. هذا أستاذ جامعي، خبير في العلاقات الدولية ومنظّر في القوانين الانتخابية، فيما تلك ليست بالعبقرية السياسية ولا تفقه معنى الخطط الاقتصادية. لكن في صندوق الاقتراع تجيّر زوين للائحة الإصلاح والتغيير أضعاف ما يجيّره الخازن. ينتبه عون أيضاً إلى أن السبب الرئيسي في وجود الخازن بينهم هو أنه ابن الخازن وأنه حين أتى ليشكل لائحته في كسروان فهم أنه لا يستطيع أن يستثني آل الخازن الكرام. اختار أقربهم إلى التيار؟ نعم ولكنه عجز عن استثنائهم. أما في أفكاره الثورية فكان يأمل أن لا يبقى من هذه العائلات (سياسياً طبعاً) شاهد يخبر عن عزها الغابر وإقطاعها المندثر. مرة أخرى، ناداه ذلك الصوت: لا تضحِّ بالحرب من أجل معركة.
قبل عشرين عاماً كان عون من عمر نحاس. اختار أن لا يوقع، معتقداً أنه سيخسر مجرد معركة في حرب. لكنه أمضى عشرين عاماً لاحقاً في العمل لتعويض ما خسره في تلك المعركة. وكان كلما دخل إلى سريره لينام يتذكر أولئك الذين قتلوا في المعركة والذين تحملوا معه النفي والإبعاد. يتذكر عون أنه لم يفرض على نحاس طائفاً معلباً كما فُرض الطائف عليه: وفّر عون لنحاس كل الضمانات والترتيبات الإدارية ليوقّع بشرف، من دون أي انتقاص من كرامته.
كرسي نحاس هنا والأفكار. المشكلة في ميشال عون أم في الناخب؟ أين كان أولئك «المستشرسون» في نتش التيار الوطني الحر اليوم لتخليه عن نحاس؟ لماذا لم يملأوا الساحات والشاشات وحبر الصحف في نهاية الأسبوع الماضي دفاعاً عن خيار نحاس والتيار الوطني الحر؟ أين هم العمال الذين يريد البعض لعون أن يفجر الحكومة حرصاً على حقوقهم؟ عون المسؤول عن استقالة نحاس أم هم؟

قرب كرسي نحاس الشاغر، يجلس فادي عبود. يبتسم عون بينه وبين نفسه حين تلتقي عيناه وعينا عبود. حين جلس مع نفسه ليختار وزراءه فكر عون على طريقة رجل الدولة. حاول اختيار ممثلين عن مختلف شرائح المجتمع: للعمال شربل نحاس ولأصحاب العمل فادي عبود. للتيار الوطني الحر غابي ليون ولأصدقاء التيار نقولا الصحناوي وللجنرال نفسه جبران باسيل. حاول التوفيق بين هؤلاء، نجح مرات وفشل مرة؛ لا العكس. المشكلة أن عون طلب من نحاس تنازلاً؟ أيعلم هؤلاء كم تنازلاً يفرض عون على عبود يومياً؟

قرب كرسي نحاس يشغل النائب غسان مخيبر أحد الكراسي. تقف عينا الجنرال عنده لثواني. مَن مِن اللبنانيين ينتبه إلى ما يقوم به هذا النائب في المجلس النيابي؟ من يتحمله أكثر من دقيقتين حين يطل في مقابلة تلفزيونية متحدثاً عن مشاريع القوانين والتعديلات الدستورية التي يتقدم بها؟ من ينتبه إلى مآثره الانتخابية حين يرتب الأسماء في اللائحة التي سينتخبها؟ يعلم الجنرال أن نائباً كهذا لا يمثل ـــــ مع الأسف الشديد ـــــ قيمة مضافة (شعبية) للائحة التغيير والإصلاح في المتن أو في أية دائرة أخرى. ويعلم أيضاً أن قيامة الغيارى (الذين يصدف أنهم لا ينتخبون) على العمل البرلماني المميز ستقوم إن تخلى عون عن مخيبر، وعندها فقط سينتبهون إلى أهمية مخيبر وقدسية دوره التشريعي، مفترضين وجود مؤامرة أممية خلف إبعاده. قرب مخيبر «نائب سماعة» آخر يدعى سليم سلهب، ونائبان «حاميان» هما إبراهيم كنعان ونبيل نقولا يمثلان بالنسبة إلى الجنرال النصف الملآن من الكأس.

في المتن راعى الجنرال الحسابات العائلية والمناطقية عبر سلهب، ومبادئه وقيم التيار الوطني الحر عبر نقولا وكنعان. في جزين فعل الأمر نفسه: ميشال الحلو مثّل نصفَ الكأس العوني الفارغ وزياد أسود النصف الملآن. من جبيل تجدون حول طاولة التغيير والإصلاح وليد الخوري ممثلاً لحيثية عائلية مناطقية عمشيتية وسيمون أبي رميا ممثلاً مبادئ التيار الوطني الحر وقيمه. هل «مصيبة» نيابة سليم كرم ارتكبها ميشال عون أم أن الناخب لا يرضى بغير تمثيل «سليلة» يوسف بيك كرم في المجلس النيابي؟ كان يأمل عون أن يتمكن ثنائي كنعان ـــــ نقولا الحد من نفوذ زميلهما في تمثيل المتنيين ميشال المر في إدارات الدولة، لكنه اكتشف أن ذلك أصعب مما يتخيله أي إنسان. اكتشف أن المشكلة الأهم من المر نفسه تكمن في الناخب الذي يسعى بشتى الوسائل إلى تحويل كنعان ونقولا إلى مر ثانٍ وثالث.

في السابق كان الجنرال متصالحاً مع ثورته، لكنه كان متصادماً مع أكثرية مجتمعه. صحيح أن «جنونه» استقطب كثيرين، لكن هؤلاء الكثيرين أثبتوا عجزهم عن كسر ستاتيكو العائلات والمصالح والطوائف الممسك بالبلد. دفع عون وتياره في محاولته كسر هذا الستاتيكو ثمناً لم تدفعه أي مجموعة لبنانية. اختار أخيراً التصالح مع مجتمعه، وتفهمَ هذا المجتمع ومراعاةَ قدراته، من دون أن يؤثر ذلك على تصالحه مع «ثورته». يحاول اليوم التوفيق بين الاثنين. لا يجوز ظلم عماد الرابية. لا يمكن النظر إلى ميشال الحلو وسليم وسلهب وجيلبرت زوين على طاولة الرابية وتجاهل وجود زياد أسود وآلان عون وإبراهيم كنعان ونبيل نقولا وحكمت ديب وسيمون أبي رميا وغسان مخيبر. لا يمكن التوقف عند التنازل الذي طلبه من ممثل العمال من دون ملاحظة التنازلات التي يطلبها يومياً من ممثل أصحاب العمل. ثمة مجموعة في الرابية تعبّر عن مجتمع، فالقائد يعبر عن مجتمعه ـــــ بصالحه وطالحه ـــــ لا عن مجتمع أثينا. اسم هذا الرجل ميشال وعائلته عون، لا أفلاطون.

السابق
الاخبار: غاب نحّاس… العبي يا حكومة
التالي
الحوار الوطني برعاية جنبلاط