عين تقترب من الجيش السوري الحر

يوضب عبد الرزاق طلاس بدلته العسكرية، ويطويها بعناية. جولة الكاميرا المتسللة إلى حي «بابا عمر» كانت قبل الأيام الأكثر سوادا التي يعيشها حتى الآن. تسأله صوفيا عمارة «عبد الرزاق هل أنت خائف؟». يبتسم بتفهم، ويقول: «لا… يا إما نستشهد يا إما ننتصر على العدو». لم ينتشر فيلم صحافية الميدان الفرنسية هذا كما انتشر فيلمها الأول. سبق وتسللت إلى الرستن وحماه بعد اقتحامهما، والتقطت مشاهد قصتها بشجاعة وتروٍ رغم الخطر الكبير، وها هي تأخذنا إلى حمص، قبيل أن يصب النظام السوري عليها من أسوأ ما لديه.
كأنها لم تقتنع، فعاودت الكرة، بعربية طليقة ولكنة لبنانية، لتسائل ابتسامته المطمئنة: ألا تخاف من التعذيب». وكأنه يبدد قلق محاوره، ردّ: «لا مجال للتعذيب، لأننا نضع في بالنا أننا في حال وقعنا، قبل النهاية الواحد يستشهد، يموت ولا..». تطول ألف النفي، ولا يكمل الجملة.

نظل على مقربة منه، يمشط شعره ولحيته المشذبة بأناقة، ويمضي ببيجامة رياضية، لتجول بهم سيارة على جبهة أهلية بكل معنى الكلمة. يمرّ بجمع وأمامه شاحنة صغيرة، ونسمع كيف يتبرع الأهالي بمئة ليرة سورية أو أقل ليجمعوا طعام الجنود. يدلّها أين تتمركز حواجز الحماية، وتُرى قريبة منها حواجز الأمن. نرى كيف قامت قوات النظام، قبل استيلاء الجيش الحر على المنطقة، بفتح طرق تتخلل الأبنية. كسروا في الجدران أبوابا تقابل أبوابا، كي لا يمروا في الطرق العادية. نقابل عبد الرزاق قائدا ميدانيا الآن، ونوضع أمام اقتراب إنساني منه. نكاد نحس أن لا حواجز تذكر، وأنه يتحدث بأريحية للكاميرا. ولهذا أسبابه، فمن يحملها ليس بغريب عنه. كانت صوفيا أول من قابله، بعدما أعلن انشقاقه مع مجـموعة من زملائه في الرستن. كان وقتها فارا للتو، والبيت الذي باتوا فيه حـولته القذائف في اليوم التالي إلى حطام. كانت مطاردة شرسة. نجا المنشق الثائر، وها هو الآن مع بعض رفاقه بين يدي الثورة الأهلية. الكاميرا ملتصقة بوجهه وهو يؤدي صلاته هناك، في غرفة بيت قريب من خط إطلاق النار. يروح ويجيء، بابتسامة لا تفارقه، ويتناول طعامه مع كثيرين يفترشون أرض غرفة. يدللونه بتقديم لقمة مميزة، فيبتسم بحياء. سـنراه بين الأطفال، وهم يزقزقون أمام الكاميرا «الله محيي الجيش الحـر». يقول زميله، الضابط المنشق الآخر، هذه «رسالة لبشار الأسد». سيواصل الأطفال الهتاف، ويرفعون شارة النصر. يبتسم عبد الرزاق بينهم، ويرفع طفلاً صغيراً من خلف أصحابه ليستطيع الظهور في الصورة: «إنهم أطفال الحريّة». بعد لحظات، ستجفل هذه العين الراصدة على مرأى منّا: يمرّ «بيك آب» وفوقه رشاش، وبين من هم حوله رجل حليق بلحية كثّة. تتباطأ اللقطة وهي تتبعه. يبدو أنه «سلفي»؟، تسأل صاحبة الفيلم. مشهد وسؤال غير منتظر، يصيبُ بالإحراج ضابطاً زميلاً لعبد الرزاق. يتلعثم، ويقول إن الأمر لا علاقة له بما تفكر، بل لأسباب أخرى: «هذا نتيجة أن لا أحد عنده وقت ليحلق ذقنه». مظهر الرجل لم يكن اعتباطيا أبدا، وحلاقة الرأس بدت مدروسة. كان واضحا أن الضابط المنشق نفسه غير مقتنع بما يقول. تحدثنا راوية الفيلم عن الإصرار على حالة النفي هذه كلما استوضحتهم، لتخبرنا أنها فهمت من الحديث، خارج أوقات التصوير، أن: «جزءا من الأسلحة تمويلها قادم من الإخوان المسلمين»، ومن مهاجرين سوريين في السعودية.
تمضي الكاميرا لترصد لحظات إطلاق النار، من جهة قوات النظام. يخبرها المنشقون بأن ما يطلق عليهم، وعلى المدنيين العزل، هو قذائف تستخدم عادة لدك التحصينات قبل الهجوم في المعارك. تلتقي ليلا وفدا من نساء ورجال جاؤوا للتضامن من دمشق. احتفال شعبي، وهتاف لحمص ولثورة وطنية يتحدى علنا مجاهدة النظام لوصمها في صورة ثورة طائفية. عبد الرزاق يقول إنها لن تكون إلا ثورة وطنية، وكل محاولات النظام لوصمها لن تنجح. تقترب النهاية على صور من بدايات قصف الحي، نرى بعض ضحاياه، وتنتهي الجولة على مبنى دمرت أجزاء منه.

كان اقترابا مؤثرا، وابتسامة عبد الرزاق تبث الأمان حوله. لكن أيضا، لا تغادر الذهن تلك الجفلة التي انتابت الكامـيرا وهي تلمح الشـاب الذي «يبدو سلفيا». ارتباك الجنـود المنـشقين، عند الحديث عن السلـفيين، يجعل الأسئلة ملحّة أكثر. حرجهم الذي تعذر إخـفاءه، وطريقــة نفيهم غير المقنعة. هل هناك سلفيون فعلا؟ هل هم حالات منفردة، أم أكثر؟ ما حجمهم؟ كيف أتوا ولأي قضية؟ ماذا يجري مع الجنود المنشقين، وكيف فتح الباب أمام تجنيد المدنيين؟ كيف يحصلون على الإمدادات بالأسلـحة والذخائر وبأي أثمان؟ وفي المحصلة، ما الذي يعود به الجنود المنشقون على الثورة؟ ما فعلوه شجاعة هائلة، وأقلّه تقديرها واحتضانهم، لكن، كمحصلة أيضا، هل صاروا عبئا على الثورة الشعبية أم بالفعل يفتحون أمامها متنفسا وأفقا؟
أسئلة صعبة بالفعل، وهي بلا إجابات واضحة، وهكذا كيفما قلّبت ستستقر على تخمينات مرسلة في القلق (ينبغي ذكر المحاولة الجريئة للمحامية رزان زيتونة عندما قاربت الموضوع وقدمت حوارا لافتا، نشرته «الحياة»، مع قائد كتيبة في الرستن، كان متظاهرا مدنيا واختار التسلح بعد تنكيل النظام بعائلته).

خروج هذه الأسئلة، لتتحرك وتتنفس في نقاش عام، أفضل بكثير من مراكمتها، تتنازعها إشارات من هنا وهناك. قد يقــول البعض إنه لا يريد طرح أسئلة تخدم النظام، وربما يفسر حذر كهذا عدم انتـشار الفــيلم الأخير كما حصل مع سابقه. لم تتخـاطفه الصفحات الداعـمة للثـورة، برغم أنه، إلى مهمته الصحافية، قدم مقاربة إنسانية للمنشقين. استمال تعاطف المشاهدين معهم، لكنه أيضا لم يتعامَ عن طرح أسئلة حول ما يراه عيانا.
النظام لم ينتظر شيئا ليشيطن المتظاهرين السلميين. والأسئلة ضرورية لتعي الثورة نفسها، وليخرج إلى النور ما يجري فعلا. ليجـعل الواقع مكشوفا للناس وهكذا يضع الضالعين فيه أمام مسؤولياتهم، فمـعرفة الناس رقابة لا غنى عنها. هذه ثورة تعرضت لإجرام فاحــش ومدروس، وكان حرفها عن وجهتها هدفا معلنا منذ أطلـقت أولى شعاراتها. لم تكن نيران النظام موجهة فقط إلى صدور المتظاهرين، بل بكثافة نيران مماثلة إلى صدر مبادئها وشعاراتها. لا بد من الكشف على الجرحى.. والضحايا إن وجدوا. 

السابق
سكان مبنى الشرحبيل ينتظرون العودة إليه
التالي
ممرضات مثيرات للعمل!