الحيويّة الشيعيّة اللبنانيّة

في الفترة الأخيرة ثمّة ظاهرةٌ لافتة تتمثّل في مجموعة من "المبادرات المدنيّة" ضمن البيئة الشيعيّة اللبنانيّة، وآخرها تحت مسمّى "مواطنون لبنانيّون من الجنوب" أعلنت الانحياز إلى الشعب السوريّ وثورته المستمرّة منذ ما يقارب العام.

وأهميّة هذه المبادرات أنها مستقلّة. هي إعتراضيّة على "حزب الله" وسياساته بداهةً، لكنّها مستقلّة عن 14 آذار أيضاً، بمعنى أنّها تجسّد حيويّة أو ديناميّة شيعيّة تشقّ طريقها، وتضَع – بَل هي مرشّحة لأن تضَع – حدّاً لفكرة سابقة كانت ترى إلى العلاقة بالشيعة المستقلّين عن "الثنائيّة" والمعترضين عليها بوَصفها "ملفاً" على طاولة 14 آذار. وتضع حداً بشكل أساسيّ لتفكير كان بعض أصحابه يتطلّع إلى "ملحق شيعيّ" لـ 14 آذار، مع العلم أنّ أعداداً كبيرة من الشيعة اللبنانيين كانت شريكة في "اللحظة التاريخيّة" التي اسمها 14 آذار 2005.

ليست غاية هذه السطور استرجاع المحطّات في "المسألة الشيعيّة" منذ سبع سنوات، ما هو جادّ منها وما هو "تخبيص".

الغايةُ الجوهريّة الأولى هي تظهير حقيقة أنّ تلك الديناميّة الشيعيّة تتنامى في هذه الأيام، في رحاب ربيع "عام" هو الربيع العربيّ، وفي مرحلة يحتاج الشيعة اللبنانيّون والعرب إلى تأكيد انتمائهم إلى أوطانهم وإلى عروبتهم وإلى القيَم التي توحّدت الشعوب العربيّة حولها، وفي مرحلة يحتاج الشيعة العرب – واللبنانيّون من بينهم – إلى تأكيد رفضهم "التصادم" الشيعيّ – السنيّ المتصاعد رغماً عنهم في أماكن عدّة على الخارطة العربيّة.

والغاية الجوهريّة الثانية هي إبراز ما تعلنُه هذه الديناميّة الشيعيّة المتنامية في العمق، أي ليس فقط رفض اختزال فريق سياسيّ – حزبيّ للطائفة، بل رفضُ فرض خيارات سياسيّة عليها، تتناقض مع تاريخها ومساهماتها عبر التاريخ في الكفاح من أجل الحقّ والعدالة والحريّة والكرامة، خيارات أدّت وتؤدّي إلى عزل الشيعة وانعزالهم بدلاً من انفتاحهم المعروف على كلّ التيّارات الفكريّة التنويريّة والحداثيّة، وأدّت وتؤدّي إلى وضعهم مع الجلّادين ضدّ الضحايا في مواجهة ثورات شعبيّة ديموقراطيّة تعلنُ أنّ الإنسان غايتها وهدفها. وها هي الديناميّة الشيعية المتنامية الآن تعلن اعتراضها الصارم على وَضع الشيعة بجانب نظام ديكتاتوريّ فاشي في سوريّا.

والغاية الجوهريّة الثالثة – من السطور السابقة – هي تظهير حجم الشجاعة المعنويّة والأخلاقيّة والسياسيّة والوطنيّة لدى المنخرطين في الديناميّة المنَوّه عنها. فما يحصل بالفِعل، عبر المبادرات المدنيّة، هو كسرٌ لجدار الخوف من القوّة، بل هو كسرٌ لمنظومة "ثقافيّة" كاملة لدى الفريق السياسيّ – الحزبيّ الشيعيّ المسلّح، بل هو إعلان استعداد لتحمّل كلفة الاعتراض و"المناطحة". والعبرة هنا واضحة: جنوبيون من مختلف الفئات الاجتماعيّة يوقعون على موقف – مبادرة، ويضعون عناوينهم، ويخبرون عن مهنهم!.

الغايةُ الجوهريّة الرابعة هي تظهير حجم العراء الذي يعتري "حزب الله". ففي ما يتجاوز بنيته التنظيميّة، يبدو واضحاً أكثر فأكثر أنّ الحزب مقطوع الصلة بنخب الشيعة وبأوساطهم الاجتماعيّة على اختلافها وتنوّعها. يبدو واضحاً أكثر فأكثر أنّه فاقدٌ لـ "الشرعيّة" الفكريّة – الثقافيّة – السياسيّة، إذ "يتطوّر" فقط في تحوّله إلى مجرّد كتلة عسكريّة – أمنيّة "تشتغل" في السياسة!.

أمّا الغاية الجوهريّة الخامسة والأخيرة، فهي أنّ الديناميّة الشيعيّة، موضوع هذه السطور، إنّما تطرحُ على 14 آذار، وفي وجهها، تحدّياً كبيراً.

فالمنخرطون في المبادرات ليسوا جسماً مستعداً لــ "الانضمام" إلى 14 آذار بالمعنى "التنظيمي"، وليس مطلوباً منهم ذلك في الأصل، على رغم انحياز عددين منهم سياسياً إلى 14 آذار، أو بالأحرى على رغم كَون هؤلاء "ضدّ" 8 آذار.

فالتحدّي المطروح هو تحدّي التواصل مع الحَيوات الشيعيّة هذه، وهو مباركة 14 آذار لمبادرات "حوار مدنيّ"، لا سيّما أن لا أفقَ لحوار سياسيّ مباشر بين قوى سياسيّة. وهو – وهذا الأهمّ – أن تقرأ 14 آذار جيداً أنّ مستقبل لبنان لن تحسمه إلّا حيويّات أو ديناميّات مدنيّة من هذا النوع، وأن تدرك مبكراً أنّ الأفق الذي تذهب إليه تلك الديناميّات المتنوّعة هو أفق الدولة المدنيّة، وأن تتبنّى هذا الأفق كأولويّة للمرحلة المقبلة.

من المبالغة القول إنّ ما يجري ربيع شيعيّ، ومن الخطأ – في الوقت نفسه – اعتبار أنّ ثمّة ربيعاً يخصّ طائفة. إنّ ما يجري هو فرصة لتجديد ربيع لبنان، وإعادة صَوغ أهداف "الثورة" وأولويّاتها. 
  

السابق
14 آذار.. وعلاقتها الجديدة مع المكوّن الشيعي المستقل عن امل وحزب الله
التالي
اجتماع ثلاثي في الناقورة اليوم لمناقشة إجراءات أمنية إضافية