روزفلت يتقلب في قبره

ان اميركا هي ارض الميعاد. صحيح لا يوجد كاسرائيل، هذا مؤكد. لكن دعونا لحظة من الصهيونية. ان أرض ميعادنا هي الولايات المتحدة الاميركية. فهي قبلة صلواتنا النائية ومنتهى أشواقنا. وللاميركيين كل ما نشتهيه: الطعام السريع الاميركي، والتلفاز الاميركي، والمال الاميركي، والذرة المحمصة الاميركية، وهوليوود ولاس فيغاس وهارفارد والمارينز. وهو شيء عظيم لكل واحد. كل شيء في اميركا يلائم أذواقنا: فهو كبير وآسر ومملوء بذاته. كل شيء اميركي. نحن في الشرق وقلوبنا على مشارف الغرب.
لكن اميركا هذه التي نحب كثيرا حبها (ومن جملة اسباب ذلك أنها تحبنا كثيرا)، هي في ازمات كبيرة جدا. ان شيئا ما لا يعمل هناك في مكان فيه مشكلات قابلة للحل – في السياسة.
كانت الديمقراطية الاميركية سنين طويلة موضوعا للحسد والاجلال. ربما لم ينتج الاميركيون من بين ظهرانيهم مفكرين كبارا لكن كان عندهم ناس يعرفون اتخاذ القرارات واصلاح ما يحتاج الى اصلاح. يتحدثون عن ان القاضي الأعلى أوليفر ووندل هولمز قال عن الرئيس روزفلت: ربما لا يكون مفكرا من الطراز الاول لكن من المؤكد انه ذو صفات شخصية من الطراز الاول، وهذان الحُكمان في اميركا يُعدان إطراءا. يجب على السياسي ان يعرف كيف يحدد المشكلات ويحلها، وتتشوش الامور بين الفينة والاخرى فهذه سنة العالم. وان مندوبي الجمهور يعرفون تحديدها واصلاحها. ان مجلس النواب الاميركي والمحكمة الاميركية والرئاسة – كلها عرفت العمل عن براغماتية سليمة، وعن رؤية عامة واعية لا تنساق وراء ايديولوجيات وأحلام يقظة كما في اوروبا والعالم الثالث. ان رجلي السياسي الاميركي راسختان عميقا في ارض الواقع. يستطيع الجمهور ان يملأ بطنه بغذاء سريع وان يُدمن غباء البرامج التافهة وان يصرف قدميه عن صناديق الاقتراع، أما المنتخبون فيفترض ان يعرفوا تحديد المشكلات وحلها.
لا يعني هذا ان جميع منتخبي الجمهور في الولايات المتحدة كانوا عباقرة دائما، وقد كان كثيرون منهم أقلام رصاص شاحبة جدا. ولا يعني هذا ان الجميع كانوا مستقيمين ونزيهين: فان الفساد السياسي في اميركا جزء مقبول من قواعد اللعب. ولا يعني هذا ان الجميع آمنوا حقا بقيم الدستور المقدسة، ففي اميركا غير قليل من العنصريين والشوفنيين الذين يحفظون الدستور عن ظهر قلب. لكن الجهاز عرف كيف يوازن نفسه ويتجدد وكيف يتعرف على الازمات ويرد عليها. وكان هذا النجوع في السياسة الاميركية سر عظمة الولايات المتحدة في القرن العشرين.
يخيل إلينا ان شيئا ما قد اختل في هذا الجهاز، فالدلائل تنذر بالشر. هناك أخطاء صعبة وازمات شديدة وجهاز فقد القدرة على النظر في عيني الواقع. ان انتخاب جورج دبليو بوش ومجموعة العقائديين المحافظين الجدد معه قد أدخل في قلب جهاز اتخاذ القرارات الاميركي ناسا يعملون بحسب أهواء قلوبهم وتصور عام محلق عاليا فوق ارض الواقع. والاستعباد الفكري لدين السوق الحرة قد أفضى الى عدم قدرة على تقويم العقد الاقتصادي – الاجتماعي حتى في مواجهة انهيار فظيع للنظام المالي، وهو انهيار كشف عن السخرية وعن الشره وعن الأنانية عند أنبياء اقتصاد السوق وكهنته.
برغم الشعبية العظيمة التي تمتع بها براك اوباما مع انتخابه، لم ينجح في ان يصحح شيئا في الجهاز الداخلي الاميركي. فقد أنفق على خنزيرية أرباب المال من جيوب ناخبيه وبدل ان يقتطع من قوتهم مكّنهم من الاستمرار في اجتذاب مليارات الدولارات الى جيوبهم على حساب دافع الضرائب.
اذا كان المعسكر الديمقراطي يسوده الخوف والضعف فان المعسكر الآخر قد فقد الصلة بالواقع. والنظر في المتنافسين الجمهوريين يثير القشعريرة لأنه لا يوجد ثمة ذكر للبراغماتية ولرؤية واعية للواقع هناك. ويتنافس المرشحون في اطلاق شعارات تزداد تطرفا وفي وعود لا غطاء لها حتى لو كان ضعيفا واهيا، وفي تصريحات مخلصة لعقيدة لا تقوم على تحليل المعطيات، وعلى التزامات عمل في المستقبل اذا تحقق فسيفضي الى كارثة.
اذا كان هذا يُذكركم بشيء ما فليس ذاك بالصدفة لأن النار تتأجج في شجر الأرز. 

السابق
تفخيخ الدائرة المربعة
التالي
العد التنازلي للمشروع الذري الايراني