الشيعة يتعرضون لمحاولة استتباع

أواخر القرن التاسع عشر، تفاقم وعي الشيعة في لبنان، بما كانوا يشكونه باستمرار من جور عثماني لم يقع عليهم وحدهم، بل وقع على كل الجماعات في كل أطراف السلطنة ولم يوفر المركز التركي.. فإلى أين ذهب الشيعة في شكواهم؟
ذهبوا الى هنا وهناك وهنالك، حيث منابر الرفض والإحتجاج على هذا الجور والإعداد والاستعداد للخلاص منه، بصيغ ومشروعات توفرت في بعضها نوايا حسنة مشوبة بانفعال، وخالطت بعضها نوايا سيئة.
ذهب الشيعة الى التشكيلات والأطر التنظيمية التي كانت تتمتع بدرجة أعلى من السلامة في البنية والتوجه، على جدل بينهم حول الجائز والمحظور، والصواب والخطأ، كالجدل الذي كان دائراً في صفوف الطوائف الاخرى، ما يعني أنهم لم يكن لديهم معتقد سياسي أو مسلك سياسي خاص بهم ومعمّمم على جميع كتلهم ومشاربهم وأشخاصهم.

وفي لحظة ما، لاحظ الشيعة مع غيرهم، أن هناك مشروعاً غربياً لإسقاط الدولة العثمانية، وتجزئة واقتسام أطرافها وممتلكاتها. فأجروا حساباتهم بالدقة المتاحة وقرروا الانسجام مع الموقف الاسلامي والعربي العام، بالتفريق المنهجي بين الجور العثماني الماثل والجور الغربي العتيد. بين الصراع في الداخل مع المختلف والصراع مع الخارج المعتدي، فأظهروا سلبية تجاه التغيير بأفكار وأدوات ومشروعات وتصورات من خارج واقعهم، لأن ذلك جور في ذاته وسوف يترتب عليه جور أشدّ من جور العثمانيين، خاصة وأنه يطرح التجزئة صيغة والإنتداب (الإستعمار) مآلاً. هذا فضلاً عن منافاته للمسلّمات الإسلامية في السياسة والعقيدة والإجتماع. كان ذلك تأكيداً آخر لوحدويتهم ولتفريقهم بين الخصم والعدو، مع الإبقاء على احتمال أن ترتفع الخصومة الى مستوى العداوة إذا ما اختار الخصم أن يرفعها، واحتمال أن تهبط العداوة الى مستوى الخصومة الإختلاف إذا ما أراد العدو ذلك وحقق شروطاً موضوعية للتغيير (لا يمكن قياس فرنسا غورو ودي جوفنيل أو غي موليه بفرنسا ديغول وشيراك).. ويبقى هناك مستوى من العداء يبقى مفتوحاً لا يملك إلا سقفاً واحداً ولا يمكن إحداث شروط موضوعية للتبديل فيه، رغم كل ما يتخلل مسيرته ومساره من إنحناءات تمليها ضرورات تاريخية في لحظات عابرة، قد تطول ولكنها لا تبدل الآخر، العدو، فيتغير الموضوع كلياً، لا شروطه فقط..

ولعل أسطع مثال على ذلك في التاريخ الإحتلال (الفرنجي) الذي لم تتبدّل العلاقة والرؤية مع الغرب إلا بخروجه، وإن كانت عادت لتتركب على ظروف عدائية مختلفة، أصبحت الآن بعد انتهاء الاستعمار القديم، قائمة على معطيات أشدّ تعقيداً، ومثال آخر على التبدّل في الموضوع هو الإجتياح المغولي الذي انتهى بتبدل العقل المغولي الذي عاد عن عدوانيته واندمج في عقل المنطقة ونظمها الإجتماعية والفكرية وديانتها.. والمثال الذي نعيشه الآن للعداوة التامة هو اسرائيل والصهيونية.. وهناك أصحاب نية حسنة يعدون الأجيال بتبديل في موقفهم من اليهود إذا ما برئوا من الصهيونية نهجاً وسلوكاً، وهناك متفائلون بإمكان ذلك، كما أن هناك متشائمين، يرون التبدل الموضوعي المطلوب هو زوال اسرائيل لتعود العلاقة مع اليهود الى نصابها الإيماني والإنساني والحضاري المنشود..
إن الشيعة في لبنان عندما يصرّون، في النهج والسلوك، على التفريق بين الخصومة والعداوة، ويضعون ذلك في رأس أولوياتهم، إنما يطابقون الطبيعي في نظام الكون والانسان والحياة، ويطابقون في الأساس المسلمات الدينية عامة والاسلامية خاصة. وعلى ذلك قامت أولوياتهم، الثابتة منها والمستجدة، ما حكم مسيرتهم من أوائل القرن حتى هذه اللحظة، وما يبدو أنه سوف يبقى حاكماً لهذه المسيرة في المستقبل، وبصورة أوضح، لأن وعيهم لهذا النظام الفكري والسياسي والاجتماعي قد تأصّل على خط فكري وفقهي هو الأبرز في حياة الأئمة والصالحين من علماء الشيعة والمسلمين عامة.

كان الشيعة مع العرب، الى جانب عبد الناصر، في أحزاب الوحدة، وجمهورهم في جمهورها، وفي وفاة عبد الناصر، خرجوا مثل المصريين، وكأنهم ضيعوا دليلهم، كانوا معه من أجل الوحدة، لا من أجل غيرها.. وعقيدتهم الوحدوية جعلتهم يراجعون تاريخهم بعيداً عن الحساسية المذهبية وبعيداً عن ذكريات الاساءة والظلم، وفي وعي مثقفيهم صورة طيبة لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الذين وحدوا وحرروا.. على أن وحدويتهم لم تفتح ثغرة في جدار لبنانيتهم تدخل منها تأثيرات الخارج، حتى الشيعي، لتتداخل مع قوانين ومعطيات الداخل فتؤثر على توجههم الوطني سلبياً.
إن من كانت هذه حاله، وكان هذا تكوينه، وكانت هذه ذاكرته، وكانت هذه أحلامه وأشواقه، وكان هذا دمه وعقله وقلبه، وكان هذا جسده الذي يلامس مكوناته وشروطه الطبيعية، لا يخرج من جلده.. لا يجد له خياراً مجدياً ومنسجماً، إلا الإندماج في مجتمعه الوطني ودولته الوطنية، والإبتعاد عن هواجس الإمتياز والتمايز والتمييز، حفاظاً على الوطن من التشظي، وعلى الدول من السقوط. ومن يحاول إعاقة سعيه الى ذلك فإنه يقطعه عن ذاته ووعيه وذاكرته.
وإذا كان الشيعة في لبنان، لم تتح لهم الظروف التاريخية، أن يسهموا بكامل إرادتهم وقدرتهم في التأسيس للبنان الوطن والدولة، فإنهم كانوا ميّالين بصدق واندفاع لأن يبذلوا كل ما في وسعهم، ومن دون حساب، في استكمال عملية البناء وترميم ما خربته الحرب في البنيان السياسي والإجتماعي والثقافي والإداري والتنموي، من موقع الشراكة الكاملة، غير المشروط الا بشروط الوطن الواحد السيد الذي لا تقوم سيادته الا على سيادة التكافؤ والتكامل بين بنيه وجماعاته، الحر الذي تتجسد حريته في حرية هذه الجماعات، التي من مجموع حرياتها المنتظمة في سياق ديمقراطي عاقل وهادف وعادل، تتكون حرية الوطن وتضمن سلامته. من موقع العروبة كانتماء ثقافي ومن موقع الإيمان الابراهيمي الكبير، ومن موقع الاسلام الجامع ومن موقع التشيع نهجاً يفضي الى الفضاءات الرحبة.. لا شعبة متمايزة.. بل تتمايز في مسلكيتها الوطنية الجامعة والمقدامة.. لأن ذلك مجد يحسن بالشرفاء أن يسعوا اليه.. قد يتعثّر أو يتكسّر هذا المسار ولكنه لا يلبث أن يعود ويسود، ويبقى المرجو أن لا تكثر الخسائر في التفاصيل جراء فهم شيعي غير مطابق لوعي الشيعة لذاتهم.. هذا الوعي الذي يمكن تشويهه عمداً أو خطأً بالتعصيب، ولكنه محكوم بالعودة الى نصابه الثابت. والى استقطاب الإندماج والتناغم والإنسجام والوفاق والإختلاف الطبيعي والتكاملي.. بدل الشقاق والتمايز والانفصال حذراً من التلاشي. وكل ذلك مشروط بعدم وقوع المكونات الأخرى في إغراء العزل وإخضاع المعنى الوطني للحجم العددي والعناية أو الإعجاب بالنمو العضلي مع إهمال النمو العقلي والبحث عن الحصص بدلاً من مشروع النهوض الذي لا ينجز إلا بالشراكة في الربيع العربي بذوراً ونباتاً وزهراً وثمراً ومحصولاً.

المؤتمر التبليغي الاسلامي
الشيعي الأول
كان تنظيم النشاط التبليغي تعميم الوعي الفقهي وتعميق العقيدة في المساحة الاسلامية الشيعية في لبنان من المقاصد التي تأسس عليها المجلس الاسلامي الأعلى، ولكن الحرب الأهلية مع مقدماتها الإقليمية، أربكت المؤسسات التبليغية لدى الأسر الروحية اللبنانية، فتراجعت طموحات المجلس لحساب هموم أخرى.
ثم انتهت الحرب، ودخلت المنطقة في تسوية، ما اقتضى الإرتقاء الى مستوى التحديات من ترسيخ السلم الأهلي وحفظه، الى مواجهة أخطار التسوية، باستنهاض إرادة الممانعة وتعميم قيمها وأفكارها. وهي مسألة ثقافية أولاً، والنشاط التبليغي نشاط ثقافي يطلّ على المدى المشترك بين العقيدة والمجتمع، بين الشريعة والمكلفين، منه واليه يتحرك المبلّغ رجل الدين عموماً على عدة وعتاد تدخل فيه المعرفة والإيمان والإحساس بالدور والإرتقاء بالأداء الى مستوى المستجدّ من الشؤون والشجون، واستشراف المستقبل بذاكرة حيّة ونقيّة، ووعي الحاضر والإدارة الفاعلة والبصيرة المفتوحة.
ومن علامات الراهن الذي نعانيه والغد الذي ننتظره، تراجع الإيديولوجيات التي قامت على نقض الدين، واهتزاز الإيديولوجيات التي استبعدته وطابع المغامرة في اندفاعات الجماعات الدينية التي تحمل مشروعات مرصودة بأكثر سلبيات المشروعات المندحرة.
وبين هذا وذاك، ينكشف ان الدين، والسماوي والتوحيدي منه على التعيين، يفيض في سعة انتشاره المتجدّد، عن الحيّز الذي تحصر تلك الجماعات نفسها ودينها فيه، أنه ثابت في تكوين البشرية، غير مرهون بنجاحات الأحزاب الدينية وإخفاقاتها.
وهنا تتبلور حدود المجال الرحب للمؤسسات الدينية الأهلية، المنبثقة عن المجتمع الأهلي، الممثلة لطموحاته، الحاضنة لتنوعاته من دون اختزال، والملتزمة النظام العام في أقطارها من منظور فقهي واقعي، مما يجعلها الأكثر أهلية لإرساء النشاط التبليغي على النصاب الرسالي الذي يزيل الإلتباس بين الثابت والمتغيّر، بين الطموح الديني والمشروع السياسي، من دون مجافاة للسياسة أو الوقوع في ذرائعيتها، كذلك إزالة الالتباس بين خصوصية الجماعات السياسية وعمومية الشأن الديني وخطابه، بين الثقافة الدينية ذات الأفق الواسع والثقافة الفئوية المقطوعة عن أصولها والموصولة بنظم معرفية مغايرة. إن المستجد في مهمة المبلغ الديني هو أنها باتت تتعاطى مع تعقيدين، أولهما أن الهجمة على الدين أصبحت على يقين بثباته وديمومته فلا بدّ من تشويهه باختزاله في نماذج مشوهة وتجاوزه بأنظمة جديدة للقيم والمصالح. والثاني هو نزوع الحركات الدينية والإسلامية السياسية منها خصوصاً، بعدما استشعرت القوة الى المصادرة وتعميم أفكارها التي تضع العقيدة والثقافة وعلائق الحياة في مسار المشروع السياسي واختياراته واختباراته الحادة.
هذا في العام، وعندنا في لبنان معطيات تجعل الاهتمام بالنشاط التبليغي في صلب عملية إعادة بناء المجتمع على السالم من بنيته والضروري من مقتضيات حاضره وغده. ولبنان مدعو الى تجديد دوره في اغتنام الحرية التي تتيحها حال التنوع فيه وتمنع قمع الإبداع والتجديد، ليقدم مثالاً في السلم الداخلي يحقق شرطاً موضوعياً للتعاطي مع استحقاقات التسوية، بعدما قدم مثالاً سلبياً في تحويل التنوعات المتنافسة الى تضادات متصارعة في حرب طالت ونالت من كفاءاته وأهلية أطرافه ومصالحهم. وللتبليغ الديني دور في هذا المجال، وخصوصاً بعدما حاول المحتربون أن يسوّغوا حروبهم بتنوّع الإنتماءات والحساسيات الدينية.
الى ذلك، فإن المسلمين الشيعة في لبنان، معنيون ومدعوون الى مواصلة النهج الإندماجي الذي يحافظ على خصوصية مضبوطة في سياق وطني عام، خصوصاً أنهم الآن يتعرّضون لمحاولة استتباع، تحققت لها بعض الشروط الملائمة في الأزمة الاقتصادية والمعيشية والاحتلال وضرورات المقاومة. ما أغرى أطرافاً شيعية بتوظيفهم في مشروع قد لا تنالهم منه إلا سلبياته. ويدخل الدين والمذهب والمظلومية والثورية الشيعية عوامل مساعدة لإرادة المصادرة والاحتواء.
إن إعادة تشكيل المثال الشيعي في لبنان ما زالت ممكنة ومطلوبة، على أساس السلم ومتطلباته، بعدما أنتجت الحرب مثالاً شيعياً على مقاس آلياتها ومحمولاتها السالبة، والمثال الشيعي له وظيفة تتعدّى لبنان الى أقطار أخرى، تحكمها تنوعات وظروف سياسية معقدة، والمثال اللبناني يجنبها المقامرة وطلب الإنصاف من طرق لا تؤدي إلا الى المزيد من الخسائر والمظالم والتهميش.
إن إعادة تشكيل منظومة التوجهات الشيعية والسلوكيات على يد المبلّغين هي ضمان لاستواء الشيعة في لبنان على مسار إيماني عقلاني يمكّنهم من الإستمرار في تحقيق تطلعاتهم المشروعة من دون أن يكون مشوباً باستعجال أو مبالغة أو انقطاع عن الواقع والتاريخ، أو واقعاً في احتمال أن يكون على حساب الوطن لا لحسابه.
وهذا ليس شأن الأفراد منفردين بل منتظمين في إطار يوحد السوية والخطاب والسلوك والرؤية وينمّي الخبرات والمواهب.
على هذه المعطيات والطموحات، انعقد المؤتمر التبليغي الأول 1 في كنف المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وبتوجيه ورعاية من رئيسه سماحة الإمام محمد مهدي شمس الدين. والهاجس هو الوصول بالنشاط التبليغي والمعنيين به من رجال الدين الى مستوى المؤسسة التي تستند الى شرعية تخوّلها الإشراف على هذا الحقل بهدف ضبطه وتطويره وتخليصه مما يترصّده من عصبيات فئوية تضعه في غير سياقه، ليواكب المهمات المطروحة بدرجة أعلى من الأهلية والمسؤولية، تناسب موقع العقيدة في وعي المسلمين الشيعة وأهمية النظم في حياتهم، ودور الشيعة كناظم لحركتهم وعلاقتهم بجماعتهم والجماعات الشريكة لهم في الدين والإيمان والوطن والمصير.

إشكالية الديني والسياسي
في لبنان .. المثال الشيعي
كان مؤتمر "الحجير" عام 1920 من هذا القرن، آخر محطة لحركة الديني ورجال الدين الشيعة في الشأن العام، والسياسي منه خاصة، في الفترة الفاصلة بين سقوط الدولة العثمانية وقيام دولة الإستقلال. فما هي إشكاليات هذه الحركة؟
لقد انعقد المؤتمر ليناهض فصل جبل عامل عن سوريا في سياق تأسيس لبنان الكبير، وكانت الزعامة الدينية الشيعية هي الحاملة لخطاب المؤتمر الوحدوي، الى الملك فيصل في دمشق. وكان كامل بك الأسعد وسائر رجال السياسة في ذلك العهد مهتمين بميلهم الى مشروع الإنتداب، مما اضطره للإلتحاق بالمؤتمر والتظاهر بالموافقة على أطروحاته، مراهناً على أن الطريق مسدودة، وتوجهات الإنتداب غالبة وهو الذي أعلن قيام لبنان الكبير للوفد الشيعي الذي رافقه الى اللقاء مع "غورو" ولكن هذا الوفد بقي خارج غرفة المباحثات فاعترض العلماء من أعضائه. ولكن المسألة كانت فوق إرادتهم ونفوذهم المتراجع، ما شكّل علامة في مفصل، بين تقليد منعته قيود العثمانيين وضعفهم، والتواطؤ الغربي عليهم من أن يستكمل مسيرته عل طريق العصر، وبين حداثة قاطعة مع الماضي العثماني مبنية على أطروحة لا تتيح للتابع أن يتجاوز آليات التطورالمسموح به والخروج عل التبعية.
إن السياسي الشيعي، على مرّ القرن الماضي، كان يرى الى عمق البعد الديني في تكوين الشيعة، ما أضاف الى رمزية رجال الدين نفوذاً جعل السياسي بين خيارين، فإما أن يأتي من تسلسل ديني، من عائلة علمية، تفتحه نافذة لها على العصر والسلطة وتكون مصدر شرعيته ودرعه الحامي (حال آل الزين)، وإما أن يطلّ من موقع السلطة والوجاهة والغنى، بالمصاهرة أو الصداقة، أو بهما، على عائلة دينية أخرى، يعقد معها حلفاً يؤمن تبادل النفوذ والمصالح (حال آل الأسعد مع بعض الأسر العملية الدينية المعروفة).
وكان الإنتداب، وحصلت ممانعات في وجهه من قبل الديني، استمرت حتى أواسط الثلاثينيات ثم توقفت، ليعود كبار العلماء، الى مواقعهم في الكتاب والمحراب، ساحتهم المجتمع الأهلي وشغلهم العقائد والقيم، مع إطلالة بين حين وآخر، على شؤون الدول والمجتمع نقداً أو تبريراً، موزعين على أقطاب السياسة المدنية، مناصرين أو محازبين. مع ملاحظة أن عدداً منهم قد انسحب انسحاباً كاملاً من هذا الميدان.
وفي لحظة، خطر في بال البعض منهم، أن ينخرطوا بشكل غير مباشر في السياسة، فدفع السيد عبد الحسين شرف الدين بأحد أبنائه الى الانتخابات النيابية وشاركه في معركته، ضد آل الأسعد، كما اندفع السيد حسن الأمين نجل السيد محسن الى هذه الحلبة متأخراً قليلاً عام 1960 بعد فاة والده 1952.
ربما كان ذلك وعياً جديداً لموقع الدولة الحديثة ودورها ومجالات النشاط التي تتيحها، وتأسيساً لموقع الشيعة فيها، مما نقع على جهد تنظيري له في كتابات الشيخ أحمد رضا والشيخ أحمد عارف الزين، اللذين حاولا أن يتدبرا فهماً لماهية النقلة وطبيعة المرحلة، تمهيداً للإنسجام مع معطياتها ومقتضياتها.

كانت الفترة من أوائل الاستقلال الى أواسط الستينيات، شاهدة على ضمور الديني وتبعيته للسياسي. وشهدت هذه الفترة إقبالا على طلب العلم في النجف من أبناء العلماء وأحفادهم، حفاظاً على التراث، ومن أبناء الفلاحين بحثاً عن تحقيق الذات دينياً ودنيوياً. وكان منصب القضاء قد بدأ يلمع. واستحدث منصب الإفتاء الذي يؤمن وجاهة وراتباً بدون عمل، كما تأمنت منطقة لمن لا يصلون هي رتبة مدرّس ديني غير ملزم بالتدريس. وكان ذلك كله شَبكاً جديداً للديني بالسياسي صاحب النفوذ الذي يؤمن الوظيفة مقابل الولاء الشخصي وحماية ولاء من يمون عليه من أهل الضيعة أو العيلة.

في هذه الأثناء، كان السيد موسى الصدر بعد وفاة السيد الأمين (1952) والسيد شرف الدين (1957) قد أتى الى لبنان، ليؤسس جديداً، على قاعدة ما اكتشفه من ارتباكات وانكشافات التحديث في الدولة والمجتمع المدني والأحزاب خصوصاً، فاقترب من المواقع السياسية، ما عمّق معرفته بالإشكالات، وجعله يستعيد الطموح الى المواءمة بين الديني والسياسي والسعي الى ذلك عبر فلش علاقاته في كل الاتجاهات، منتهياً الى تأسيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، على مضمر سياسي يفسره جزئياً معارضة القوى التقليدية له، مفضياً من كل ذلك، الى شكل أعلى تسييساً في غضون النكسة والمقاومة والحرب وتفاقم المسألة الإجتماعية، ونموّ الكفاءات والإمكانات الشيعية بما لا يتناسب مع موقعهم في بنية الدولة وقرارها، فأسّس حركة المحرومين. وظلّت هذه الانعطافة، تنمو وتتراجع الى أن حققت طموحها في الدخول العريض في بنية الدولة، على حساب قوى قديمة، استتبعت بعض أفرادها (آل الزين وعسيران)، الى جانب نماذج يسارية، كانت تعاديها بشدة ولحق الجميع بحركة "أمل" الى المجلس النيابي. ثم انتصرت الثورة الإسلامية في إيران (1979) فحظيت لدى الشيعة بقبول عام. لم يكن هو المطلوب بالضبط، الى أن كان الاجتياح الاسرائيلي عام (1982)، مناسبة لتحقيق المطلوب، عبر الشراكة في المقاومة، التي أسّس عليها بعض الشيعة "حزب الله" على طموح سياسي إسلامي شيعي، وميل الى موازاة "أمل" على الساحة الحركية الشيعية، وحقّق بعضاً من ذلك، بدخوله البرلمان، متطلعاً الى الوزارة والإدارة، مرتباً حركته السياسية على هذا الأساس، وفي الوسط بين المعارضة والموالاة.
أكد "حزب الله" منذ البداية دور رجال الدين في مشروعه. ثم عاد ليغلب المعايير السياسية في تحديد المواقع، حتى أمسى رجال الدين المتقدمون في هيكلية الحزب يتقدمون على أساس الأهلية السياسية لا العلمية من دون أن يعني ذلك أنهم فاقدون لهذه الأهلية دائماً، ولكنها لا تدخل في ميدان المفاضلة. وهذا ما يفسر، تلك العلاقة الإشكالية بين الحزب وعدد من كبار العلماء المناصرين للحزب والذين تختلف رؤيتهم جزئياً عن رؤيته ولا يشفع مستواهم العلمي وتراثهم العملي لهم.

أما إشكالية حركة "أمل" مع الديني فهي الى حلّ قد لا يكون تاماً، لأنها اختارت السياسة والسياسي إطاراً وتعريفاً وبطريقة ذرائعية قليلة العناية بالقيم العلائقية الأهلية (بوليتيكا) وأبقت على الديني في حدود الثقافة والخلفية وحفظ اللحمة في مواجهة الآخر الملتحم على دين أو مذهب أو إطار تنظيمي، مع رغبة شديدة في جعل المتعاطفين من رجال الدين على أساس مصلحي، ملحقين مذعنين ومعرّضين للعقوبة إذا أخطأوا التقدير.

إنه مناخ محكوم بالإلتباس والتداخل الذرائعي، يوهم بالإنقسام الحصري للشيعة أو يوقع الأطراف الشيعية المتقابلة، في المشهد الراهن، في وهم كونها اختزالاً للكتلة الشيعية واقتسامها، في حين أن المستجدات في السياسة والاجتماع والأسئلة التي تطرحها على الديني والسياسي، قد آذنت بحالة شيعية واسعة خارج هذا الاستقطاب التقليدي منه والمستجد، هذه الحالة لها أسئلة مختلفة وهي تتطلّع الى الخروج من التراث السجالي الى منهجية لا تتجاوز الشيعي، ولكنها أيضاً تستعيد دلالة مفصل عام 1943، الإستقلالي الميثاقي المشطوب أو الحاضر جزئياً في الذاكرة الشيعية من دون أن تضطر الى شطب مفصل "الحجير" أو تضخيمه، على أساس أن مؤتمر الحجير والإستقلال محطتان تتكاملان ولا تتناقضان وإن اختلفتا في العمق. 

السابق
متري: يُغلّب مصلحة فريقه على المصلحة الوطنية
التالي
الرسائل التي أراد السيّد إيصالها!