الجمهورية: طار نحاس وبقيت الحكومة والــــبديل من التيار

نام السياسيّون، ومعهم وسائل الاعلام، على اتفاق سياسي باركته كل القوى المشكّلة للحكومة، يقضي بأن يوقع وزير العمل شربل نحاس مرسوم بدل النقل ويحيله الى مجلس شورى الدولة الذي سيطعن فيه، وأغفلوا ان نحاس هو الوزير الذي سبق وأطاح اتفاقات سياسية جعلت الأمور تنقلب رأسا على عقب، من دون أن يأبه بأن التكتل الذي ينتمي اليه هو شريك بالاتفاق السياسي
فللمرة الثالثة، يسير نحاس عكس التيار ويتمرّد على الاتفاق السياسي الذي أحيك بدقة ووافق عليه عون وأعطى كلمة في شأنه. ولأن "كلمة الجنرال لا تسقط"، كما قال أحد أعضاء "تكتل التغيير والإصلاح" بعد انتهاء الاجتماع الذي عقد في الرابية، أمس، ولم يحضره نحاس، كانت النتيجة ان نحاس بدّل توقيع المرسوم، فوقّع استقالته وأرسلها إلى الرابية التي شكرت له جهوده مُعلنة على لسان جنرالها، "انّ ارادة التكتل فوق كل اعتبار".
وعلمنا ان اللمسات الأخيرة على الاتفاق السياسي المذكور تمّت ليل الاثنين، بعدما وُضعت مداميكها في اجتماع عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري قبل أربعة أيام، وبدأ التطلع إلى الجلسة التشريعية ثم آلية معاودة جلسات مجلس الوزراء، على رغم أنّ ساعات التفاوض مع نحاس كانت صعبة، وقد أسَرّ وزير النقل إلى غير صديق انه "أهوَن عليه ان يقدم استقالته على ان يوقّع المرسوم الذي بحّ صوته وهو يقول انه غير قانوني ولن يوقعه".
وبقي عون يأمل حتى النهاية في ألّا يخرج نحاس عن قرار"التكتل"، لكن الأخير "فعلها" وأرسل المرسوم والرسالة إلى مجلس شورى الدولة على صفحة واحدة من دون توقيعه، وطوَى صفحته بيديه.
وهنا تبدّلت الصورة، وانتقل الحديث عن ضرورة قبول الاستقالة من رئيس مجلس الوزراء قبل الجلسة التشريعية حتى يتسنّى للوزير البديل، وهو نقولا فتوش، توقيع المرسوم قبل ان يبدأ البحث باقتراح القانون الذي أعدّه زميل نحاس السابق في "التكتل" النائب ابراهيم كنعان.
لكنّ المفاجأة الثانية أن عون أبقى على الاستقالة، وقال انه يتريّث للبت بشأنها، وفي كل الاحوال سينتظر الجلسة التشريعية، الأمر الذي طرح أكثر من علامة استفهام، أبرزها: ماذا قصد عون بهذه الخطوة والاتفاق كان يقضي بتوقيع المرسوم قبل الجلسة؟ ثم ما هو مصير اقتراح القانون، هل سيسحب من جدول الجلسة التشريعية ام سيبقى؟ وهل هناك مقايضات جديدة يطمح عون في ان يضمنها الاتفاق السياسي، ام انه لا يثق بحلفائه الذين سبق وأن خذلوه؟
أمّا السؤال الأهم الذي يتغلغل في أعماق "التيار"، فمَن هو الوزير البديل؟ علماً أنّ الوزير المستقيل هو كاثوليكي، ما يعني ان البديل يجب ان يكون حتماً من الطائفة نفسها.

وعلمنا ان اجتماع "التكتل" أمس كان صاخبا، بعدما تسربت الانباء عن الازمة الشخصية التي ضربت العلاقة بين عون ونحاس، الامر الذي أحرج عون بقوّة مع بري. وكشفت اوساط في "التكتل" ان التداول جرى ليل أمس الاول بين عون ونحاس عن طريق وسيط، أفضى الى تقديم الأخير استقالته ووضعها في تصرّف عون.
وقبيل انعقاد الاجتماع الاسبوعي، بدأ نواب "التكتل" بالتداول بما جرى بين الطرفين، خصوصا عندما تبيّن أن شيئا ما قد حمله صديق مشترك من نحاس الى عون في الليل، ليتضح فيما بعد انه ليس سوى ورقة استقالة نحاس مكتوبة بخط اليد، وقال فيها انه سيتغيب عن الاجتماع الاسبوعي.
واتضح للجميع انه قدّم استقالته خطيّا من الحكومة، مفجّراً مفاجأة سياسية بوَجه عون شخصيا، والذي يقول العالمون بطباعه الشخصية "ما من احد يكسر كلامه داخل التكتل، وهو ما فعله نحاس الذي لم يكسر كلمة عون وإرادته فحسب، بل كان يريد تفشيل الاتفاق الذي توصّل اليه مع بري"، الّا ان نحاس تعمّد ان يكتب تحفظاته على المرسوم نفسه، ما يعني انه حوّل المرسوم الى رسالة لمجلس شورى الدولة، وفي الوقت نفسه أبطلَ مفعول المرسوم. وهذا الامر دفع بعضهم الى القول ايضا إن نحاس "لم يفرض كلمته على عون فحسب، بل أبطلَ الاتفاق الذي تمّ مع بري، وبالتالي أبطل مفعول المرسوم، ما يؤدي الى تفجّر الحكومة من الداخل، الامر الذي لا تتحمّله الكتلة حاليّاً".
في بداية الاجتماع، قَبلَ عون الاستقالة بناء على الرغبة الشديدة لنصف الحاضرين، على رغم محاولات البعض حَثّه على رفضها والسعي نحو مخارج افضل لحفظ ماء وَجه "التكتل" السياسي وعدم ظهوره بمظهر كتلة سياسية متصدعة، ما جعل عون يتمنّع عن قبول الاستقالة في بادىء الامر، لا سيما امام وسائل الاعلام، ويتمهّل لمعرفة ردة فعل ميقاتي، علماً انّ اجواء التكتل تفيد أن عون حَسم النقاش بقبول الاستقالة، وعدم العودة الى الوراء مهما كان.
في غضون ذلك، عَزت مصادر قريبة من نحاس خطوته الى رفض ما أسماه "انحِناء التكتل" أمام تسوية سياسية تُناقِض القرار الذي اتخذه بالوقوف الى جانبه، مُستذكراً صَفقة الـ 16 مليون دولار من اجل ترتيب شبكة الصرف الصحي في البترون، والتي أفضَت الى انحناءة اولى لوزراء "التكتل" امام الجزء الأول من مرسوم تصحيح الأجور ورفع الحد الأدنى للأجور.
وقالت انه كان من الأفضل ان يغيب عن مكتبه في الوزارة ويقفل خطوطه الهاتفية، وألّا يردّ على أحد ليترك المجال الى اختبار، شاء ان يقوم به، ويخضع فيه رئيس "التكتل" ووزراءه الى امتحان امام محنته، في مرحلة رفض فيها الضغوط التي مورست عليه من عون للسير بالمخرج المُقترح منه ومن بري وبإيحاء من "حزب الله" وبالتفاهم معه.
ولفتت الى انه سبق لـ نحاس ان اكد لـ عون انه، ولو بدل موقفه من المرسوم، فهو لن يبدل، بعدما أبلغه عون بموقفه الجديد مساء الأحد الماضي إثر الزيارة التي قام بها الوزير علي حسن خليل والحاج حسن خليل الى الوزير جبران باسيل، وبعد ذلك الى عون، وأبلغاه اضطرار بري و"حزب الله" المضِي في الترتيبات المؤدية الى "صفقة حماية الحكومة" من السقوط، باعتبار ان التفاهم القائم بين رئيسي الجمهورية والحكومة لا يمكن لأحد زعزعته على الإطلاق.
وكشفت المصادر ان نحاس طلب صباح امس موعدا من عون، فكان الجواب: ليصطحب معه المرسوم موقّعاً ومُرفقا بطلب الطعن به على ورقتين منفصلتين وبِشَكل يَليق بمخاطبة المراجع الدستورية والرسمية، وإلّا لا لزوم للموعد، متسائلا عن صحة المعلومات المُسَرّبة في وسائل الإعلام عن استمراره برفض التوقيع مهما كان الثمن، وعمّا إذا كانت تكهنات ام انها قد صدرت عنه شخصيّاً بشكل جازم ونهائي من دون العودة الى "التكتل" على الأقل.
وعندها، فهم نحاس استحالة ترتيب الموعد، فأرسل الى عون استقالته عن طريق أحد مسؤولي "التيار الوطني الحر" الذي يشغل موقعاً استشاريا في الوزارة، واضعاً إيّاها بتصرّف عون شخصيا، وليفعل بها ما يشاء.
ومساء، نقل قريبون من نحاس لنا استياءه الشديد ممّا حصل داخل "التيار" وليس داخل الحكومة، معتبرا ان الحملة المنظمة عليه كانت من الخارج والداخل، مذكّرا بالعشاء السري الذي استضافه باسيل بين عون وميقاتي، وبالخلاف الأخير الذي حصل داخل اجتماع "التكتّل" الاسبوع الفائت، والذي أثير خلاله وجوب ان يخضع نحاس لإرادة "التكتل" لأنه مُنضَو تحت لوائه.
وقال هؤلاء ان نحاس اتخذ قراره بالاستقالة بشكل حاسم بعد تفكير عميق، وأنه يعتبر انه اختار القرار الذي ينسجم مع قناعاته، ويتلاءم مع نضاله المستمر في الدفاع عن حقوق الناس.
وعلمنا أن عون وميقاتي عقدا خلوة على هامش العشاء في منزل صحناوي، انضم إليها الوزير علي حسن خليل، وتم التطرق فيها إلى كل مواضيع الساعة من استقالة نحاس، إلى معاودة مجلس الوزراء جلساته والجلسة التشريعية، وأضافت المعلومات، أن عون لم يقدم جواباً محدداً حول ما إذا كان سيودع استقالة نحاس رئاسة مجلس الوزراء قبل الجلسة التشريعية، خصوصاً أن أحداً لم يطلب منه هذا الأمر، وبالتالي في حال تم إيداع الإستقالة، يوقع فتوش مرسوم بدل النقل، وفي حال لم يودعها، سيصار إلى تأجيل البحث في اقتراح القانون المدرج في آخر جدول أعمال مجلس النواب.
وأفادت المعلومات أن ثمة تفهّماً لعون في حال احتاج إلى وقت إضافي لترتيب وضعه داخل التكتل استيعاباً لهذه الخطوة، لأن تنازله عن نحاس يُعتبر خطوة كبيرة، بعدما كان ربط في مرحلة سابقة مصير الحكومة بنحاس. وفي اول تعليق له على استقالة نحاس، نُقل عن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قوله إن هذه الخطوة، وإن صَحّت، فإنها طبيعية وضرورية، لأنها جيدة ودستورية في حال لم تكن قد أتت في اطار المناورة السياسية. وقال مقرّبون منه، انه كان قد طلب الى نحاس الإقدام على توقيع المرسوم او الاستقالة، مَنعاً للإقالة أو تبديل الحقائب. وأضافوا: "لو سمع نحاس من رئيس الجمهورية قبل عشرة ايام، لوَفّر على البلد والحكومة المزيد من المآزق التي تتراكم واحدة بعد أخرى على غير مستوى".

ونقل زوّار رئيس مجلس النواب نبيه بري ارتياحه الى الموقف الذي عبّر عنه عون إثر اجتماع التكتل، وقالت مصادر نيابية بارزة إن ما قاله عون "يعبّر تماما عمّا كان اتفق عليه مع بري الجمعة الماضي"، وكشفت ان الاتفاق كان أن يوقع نحاس مرسوم بدل النقل، ثم يسجل تحفظه عنه على ورقة منفصلة عنه، ولكن نحاس وقّع المرسوم وسجّل تحفظه على الورقة نفسها التي احتوَت نص المرسوم، مُصرّاً على موقفه في هذا الصدد.
وتوقعت المصادر ان يوقع وزير العمل بالوكالة وزير الدولة نقولا فتوش هذا المرسوم اليوم، في الوقت الذي ستقّر الجلسة التشريعية اقتراح القانون المعجل المكرر في شأن بدل النقل والمساعدات المدرسية، الذي قدّمه عضو تكتل التغيير والاصلاح النائب ابراهيم كنعان، او عبر صيغة ثالثة تجمع بين اقتراح كنعان والاقتراح الذي قدمه عضو كتلة المستقبل النائب نبيل دو فريج.

في المقابل، فضّلت رئاسة الحكومة لَو اختصر نحاس الطريق فاتخذ الخطوة الدستورية المطلوبة منه بتوقيع مرسوم النقل، او الاستقالة وفق الأصول القانونية والدستورية الصحيحة، وليتخِذ بعدها الخطوات السياسية التي يراها مناسبة باتجاه الرابية او أي مكان آخر.
واشارت الى مشاورات يجريها ميقاتي على غير مستوى لمواكبة التطورات المحيطة بالخطوة وانعكاساتها السياسية والدستورية، خصوصا انّ ميقاتي غادر مكتبه في السراي في الثامنة والنصف ليلا متوجّها الى منزل وزير الاتصالات نقولا صحناوي، من دون ان يتسلّم كتاب الاستقالة.
ولفتت الى ان الموقف الدستوري لم يتبدّل، فإذا لم يتسلم ميقاتي الاستقالة قبل الجلسة التشريعية، فلن تناقش البنود المتصلة ببدل النقل المدرجة على جدول اعمالها من خلال اقتراحَي القانونين المعجلين المكررين اللذين قدمهما كل من النائبين ابراهيم كنعان ونبيل دو فريج. وإذا توافر كتاب الاستقالة، سيتسلم فتوش مهمات وزارة العمل بالوكالة وسيوقّع مرسوم بدل النقل فوراً التزاماً منه بقرار مجلس الوزراء، فتحلّ المشكلة وبعدها يمكن البحث في مختلف الملفات. وأكدت ان البَت في ملف النقل في المجلس النيابي ليس بديلا من البَت به في الحكومة.
وتوقعت مصادر ميقاتي ان يكون البديل عن نحاس الطبق الرئيس على العشاء الذي جمع ميقاتي مع عون عند صحناوي، الامر الذي يؤدي حُكماً، وفق هذه الاوساط، الى فتح صفحة جديدة المفترض ان تفضي الى ادخال دينامية جديدة للحكومة.
وقالت ان نحاس اصرّ على تدوين ما يلي: "هذا المرسوم هو مخالف للقانون" على نفس الصفحة التي أرسلت اليه، بمعنى آخر انه حمل المرسوم رسالة الى رئاسة مجلس شورى الدولة، وبالتالي لم يُبطِل فقط مفعول المرسوم، انما أحرج مجلس شورى الدولة.
وفي المواقف، قال وزير الإعلام وليد الداعوق لـ"الجمهورية" ان نحاس باستقالته "يكون منسجماً اكثر مع نفسه، ومقتنعا بصوابية موقفه. فالرجل اعترضَ على قرار مجلس الوزراء والذي يجب ان يطبّق بحذافيره، ومن لا يريد الالتزام فمن أضعف الايمان ان يستقيل. فرفضَ نحاس، وحافظَ على قناعاته واستقال، إذا كان هناك من استقالة. لأنّ الاصول تقضي بأن يقدم نحاس استقالته الى رئيس الحكومة الذي يتخذ القرار المناسب، لكنه لم يفعل، وميقاتي لم يتبلّغ شيئا بعد، لذا لا يمكن ان نعتبر ان يؤخَذ بهذه الاستقالة".

ودعا الوزير احمد كرامي الى انتظار ما اذا كانت "استقالة نحاس ستقدم رسميّاً قبل الجلسة التشريعية ام بعدها، لأن لذلك معنى آخر". ورأى انه لا نستطيع القول إن المأزق الحكومي قد حلّ، اذا بقي مجلس الوزراء يعمل على الوتيرة نفسها من الانتاجية.
وقال كرامي لـنا: "شهادة للحق، لا نستطيع القول الّا ان نحاس هو من الوزراء الفهيمين ويدرس ملفاته بعمق، بغضّ النظر عن انتمائه السياسي وطريقة تفسيره للأمور، لكن مجلس الوزراء صَوّت بالأكثرية على قرار، وعليه الالتزام به حتى ولو لم يكن مقتنعاً، اذ ان عدم الالتزام هو مخالف للأعراف كلها".  

السابق
حلف الأقليات: إيران غايت نموذجا
التالي
الشرق: اتفاق بري – عون يطيح شربل نحاس