الاخبار: هكذا استقال الوزير المشاكس

سطر واحد كان كفيلاً باسدال الستارة على فصل كامل من وعد «التغيير والاصلاح»، او ما يحب بعض اللبنانيين تسميته بـ «الثورة من فوق». سطر واحد شديد الايجاز، ولكنه كثيف بدلالاته، جاء فيه «اتقدّم باستقالتي من عضوية مجلس الوزراء ـ الامضاء شربل نحّاس»، حمله النائب الان عون ظهر امس كـ «أمانة» ليسلّمه الى رئيس تكتّل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون… وما كان على الرسول الا البلاغ

لم يكن وزير العمل يرغب بتقديم استقالته بـ «الواسطة»، فهو ما انفك يعبّر عن حرصه على البقاء الى جانب ميشال عون في كل معاركه «الاصلاحية» وفي اي موقع داخل الحكومة او خارجها، الا ان دروب الرابية كانت قدّ سدّت امامه منذ الاثنين الماضي، عندما حمل هاتفه واتصل يطلب موعداً لأمر ملح وضروري، فاذا بالمجيب يبلغه ان «الجنرال» مشغول اليوم (الاثنين) وغداً (الثلاثاء). فهم نحّاس الرسالة جيّداً، وهي كانت قد بلغته عبر اكثر من قناة اتصال، ومفادها: «وقّع ثم اعترض».

كان نحّاس قد توصّل الى صيغة اراد ان يطرحها على عون في لقاء ثنائي يجمعهما معاً (وحدهما)، حسبما اوضح بعض الذين عملوا على خط التواصل بينهما، اذ قرر بعد تفكير مضن ان يذهب الى الرابية ومعه ورقتان، الاولى سمّاها «الوفاء» لعون وتحمل توقيع وزير العمل على مرسوم بدل النقل تنفيذاً لتعليمات رئيس التكتّل الذي سمّاه لتولّي حقيبة وزارة العمل وقبلها حقيبة وزارة الاتصالات، والثانية سمّاها «الكرامة» وتحمل استقالته من مجلس الوزراء لانه مؤمن بأن عون يفهم تماما معنى هذه الكلمة على عكس الكثيرين ممن يحسبون انفسهم «براغماتيين»، فهو الذي اعلن انه لا يوقّع على صك استسلامه عندما بدأت الحرب لاخراجه من قصر بعبدا بعد ابرام اتفاق الطائف والتسليم الدولي بالوصاية السورية على لبنان. بل اوضح هؤلاء، ايضاً، ان نحّاس كان ينوي ان يودع عون مسودة مشروع القانون الذي كلّفه باعداده مجلس الوزراء وعمل عليه لاكثر من شهر ووضعه تحت عنوان «تحديد مفهوم الاجر وشروط حمايته وصونه» بدلا من «تحديد قيمة بدل النقل».
يقول بعض المطّلعين ان عون، ربما، لم تبلغه نوايا نحّاس كما هي، او ربما لم يلتقط من الرسائل المتبادلة سوى رغبة «وزيره» بعدم التوقيع على مرسوم يخالف القوانين ويثبّت ممارسات شائنة منذ عام 1995 حتى اليوم (وهي ممارسات يعتبر رئيس الجمهورية ميشال سليمان أنها صارت كالعرف واكتسبت قوّة القانون)… ولهذا قرر عون ان يقفل الباب امامه على قاعدة «لا كلام الا بعد توقيع المرسوم»، ولعل هذا «الالتباس» هو الذي دفعه، بعد اجتماع التكتّل امس، الى التعليق على حدث «الاستقالة» بأن «القصة فاجأتنا في مرحلتها الأخيرة».
هل فوجئ عون فعلاً؟ يعود المطّلعون في سرد القصّة الى جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 18/1/2012 عندما تُرك نحّاس وحيداً يصوّت لصالح مشروعه المتعلّق بتصحيح الاجور، في حين ان الجميع، بمن فيهم وزراء التيار الوطني الحر، صوّتوا لصالح المشروع الآخر الذي يقونن ما سمّي بـ «الاتفاق الرضائي»، فحرموا الاجراء من مكاسب كثيرة على صعيد قيمة الاجر وحصانته القانونية. يومها اعلن نحّاس في الجلسة، وقبل التصويت على «بدل النقل»، انه لن يوقّع على المرسوم لأن ثلاثة آراء صدرت عن مجلس شورى الدولة تعتبر ان لا وجود لعنصر خارج الاجر يسمّى «بدل النقل»، فضلاً عن قرارات اولية اصدرها المجلس اخيراً تقضي بابطال كل مراسيم بدل النقل والمنح التعليمية الصادرة منذ عام 1995 بناء على 32 مراجعة طعن تقدّمت بها هيئات اصحاب العمل… وقد سانده في موقفه يومها وزير العدل شكيب قرطباوي والامين العام لمجلس الوزراء القاضي سهيل بوجي اللذان لفتا نظر المجلس الى ان مشروع المرسوم، كما يطرحه الرئيس نجيب ميقاتي، يتضمن اقراراً واضحاً بالمخالفة، باعتبار ان اول جملة في مادّته الاولى تقول حرفياً «بانتظار صدور قانون عن المجلس النيابي، تُحدد قيمة بدل النقل بكذا»، ما يعني ان مجلس الوزراء يتخذ قراراً وهو مدرك تماماً ان لا قانون يجيز له ذلك!.
الا ان الرئيس ميقاتي اصر على طرح مشروع المرسوم على التصويت ففاز بـ19 صوتاً، بينهم وزراء حركة امل وتيار المردة، في حين صوّت وزراء التكتّل وحزب الله ضده. عندها همّ نحّاس بمغادرة قاعة مجلس الوزراء، فتدخّل الوزير محمد فنيش وطرح تسوية قضت بأن يعدّ نحّاس مشروع قانون في هذا الشأن كمخرج من هذا المأزق، وهو ما عدّ بمثابة حل يقوم على اقرار القانون اولاً، ثم التوقيع على المرسوم ثانياً. لكن نحّاس لم يكن مرتاحاً لما الت اليه تلك الجلسة، فقد سبقها قبل ساعة اجتماع ضمّه الى الوزراء جبران باسيل وعلي حسن خليل ومحمد فنيش، وقد فهم من هذا الاجتماع ان هناك توافقاً يقضي بأن يتم تمرير «تصحيح الاجور» وفقا لـ «الاتفاق الرضائي»، من دون ان يعني ذلك انه سيحظى بأصوات التيار الوطني الحر وحزب الله، كما فهم ان وزيري حركة امل، بالاضافة الى وزيري حزب الله، سيقفان مع وزراء تكتّل التغيير والاصلاح (اي اكثر من ثلث الوزراء) لتطيير نصاب الجلسة في حال أصرّ ميقاتي على طرح بدل النقل على التصويت، الا أن اياً من الامرين لم يحصل في ما يمكن وصفه بالخديعة، ففكر نحّاس بالاستقالة جدّياً، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا «التفكير» عندما التقى عون الذي ابلغه بوضوح انه «يدعمه بعدم توقيع مرسوم يخالف القانون ويهدد حقوق الاجراء»… اكتفى نحّاس بهذا الموقف معتبراً ان عون لم يتراجع الا تكتيكياً وهو مستمر في معركته للاصلاح.
بعدها غاب الكلام عن ضرورة توقيع مرسوم بدل النقل، بل عُقدت اكثر من جلسة لمجلس الوزراء، وخاض فيها شربل نحّاس اكثر من معركة باسم تكتّل التغيير والاصلاح، الى ان حصل الصدام في شأن التعيينات، وأعلن ميقاتي تعليق الجلسات حتى رضوخ عون، فاذا بالمفاجأة الفعلية تكمن بتحويل نحاس الى عنوان الخلاف، ويصبح توقيعه على المرسوم قبل جلسة مجلس النواب الشرط الالزامي لدعوة مجلس الوزراء للانعقاد مجدداً، فبدأت الضغوط تنهال من كل حدب وصوب، بما في ذلك اعلان رئيس الجمهورية عن النيّة باقالة نحّاس او تبديل حقيبته، وهو ما اثار حفيظة عون فأعلن قبل 9 ايام ان نحاس خط أحمر ورأسه يساوي رأس الحكومة.
بقي نحّاس مطمئناً الى موقف عون الى ان التقاه في حفل عشاء اقامه مهندسو التيار في عيد ميلاد الجنرال، السبت الماضي، اي بعد يوم واحد من غداء عين التينة. ابلغ عون وزيره بضرورة التوقيع على المرسوم، علماً ان عون نفسه كان قد اعلن في كلمته في الحفل نفسه ان اي مرسوم لن يُوقع الا بعد «قوننته»، ففوجىء نحّاس، وبدأت رحلة البحث عن المخارج وصولاً الى اقتراح صيغة تقضي بأن يوقّع على المرسوم ويحيله على مجلس شورى الدولة لابداء الرأي فيه، فوافق نحّاس يوم الاحد على ان يكون كتاب الاحالة الى مجلس الشورى ونص مشروع المرسوم متصلين، بما يمنع اي استخدام لتوقيعه قبل صدور رأي المجلس، الا ان قنوات الاتصال بين نحّاس وعون أبلغته الاثنين بأن الاخير لم يوافق لانه التزم مع الرئيس نبيه بري على توقيع المرسوم مباشرة، وعليه ان يلتزم بذلك. وبعد ذلك حصل ما حصل وصولا الى الاستقالة.
بعد ذلك حصلت وساطات من جانب اعضاء في التكتل، ولكن نحاس كان يتلقى الرسالة نفسها، بأن عليه احترام قرار عون اولا، علماً ان الاخير لم يطلع نحاس على حقيقة ما تم في اجتماعه مع بري، وهو الاتفاق الذي تبين ان الرئيس ميقاتي كان قد اطلع عليه فور الانتهاء من اجتماع عين التينة. وما زاد في تعقيد الامر، عدم تحديد موعد لنحاس في الرابية. كان على نحاس اتخاذ القرار الاقرب الى عقله ثم الى قلبه.  

السابق
كيسنجر: طبول الحرب العالمية الثالثة بين الغرب والشرق تدق والأصم هو من لا يسمعها
التالي
مأساة رجل شجاع