وهل عالج النظام خطـر التقسـيم!؟

سوريا مسؤولية السوريين والعرب، لأن ما يجري فيها يرسم النظام الإقليمي لعقود مقبلة. كل يوم من عمر الأزمة يراكم خسائر سورية وعربية. مكوّنات الشعب السوري تتغيّر، معطيات النظام تتغيّر، والمحيط الإقليمي يتغيّر. في ملحمة العنف المجاني تنمو ظاهرات خطيرة لا يمكن حسابها كأرقام مادية. سوريا لا تتعرض إلى كوارث طبيعية نحصي ضحاياها. الجراحة الأمنية والسياسية، القتل المتعمد، التدمير والمواجهات العدائية إرث يزعزع ركائز المجتمع، يغذي الحقد والكراهية والانقسام والانتقام ويكوّن خيارات سياسية لا علاقة لها بالشعارات الأساسية أو الأولية للقوى، ويغذي الانعزاليات العربية.

سوريا سلكت الطريق البشع إلى شكل من أشكال التقسيم. لا يتم التقسيم فقط في المؤسسات، في قوى الأمن والإدارات، في التمثيل الخارجي وفي اعتراف الدول. التقسيم في المجتمع الذي انحدر إلى عنف أهلي غير مسبوق. يبقى في إطار الدلالة الرمزية احتلال هذه المدينة أو تلك، فوضى هذه المدينة أو تلك، لكن خروج أي منطقة عن ولائها للدولة المركزية ولو سلمياً هو ظاهرة من ظواهر تفكك الدولة. لا تقوم دولة شرعية على الإخضاع وفرض الطاعة بالقوة بل على الولاء القائم على الاقتناع والرضى. في سوريا الآن مجتمع مشرذم. الحصيلة الراهنة لسنة من المحنة انبعاث مشؤوم لوعي طوائفي جهوي قبلي عائلي مذهبي عرقي. سوريا لم تعد المجتمع الوطني الموحد المندمج المتعايش والمتآلف حول مشروع الدولة السياسي القابل بالأمن الشرعي المؤمن بالسياسة الاجتماعية والخارجية الداعم لخيارات الدولة الأساسية. وفي سوريا عزل وانعزال عن العرب.

بقاء النظام كلمة فارغة جوفاء بلهاء ترددها مجموعة من المتكلمين المتملقين وبعض الرغبويين أو اللاعبين السياسيين الكبار أصحاب الحسابات الجيو سياسية الذين ينظرون إلى المنطقة كجغرافيا وخارطة نفوذ من دون شعب ومن دون روح. كيف للنظام أن يبقى بعد كل هذه المتغيّرات!؟ كيف يمكن للنظام أن يستعيد أو أن يبني شرعيته مجدداً على ركيزة واحدة هي الأمن والحماية الدولية. وأي معنى لنظام لا يواجه ما يعتبره مؤامرة تقسيم وتغيير في موقع بلاده التاريخي؟ فإذا كانت سوريا الإرث الذي ندافع عنه هي الالتزام بالتحرر الوطني والقومي والاستقلال والكرامة والدولة المحورية الجاذبة لمحيطها الموحدة في ولاء شعبها فهذه قيم ومعطيات تتحطم في دورات العنف النابذة لهذه القيم.
لقد ابتذلنا السياسة ونحن نمارس التزويق اللغوي والتحريف المنهجي للواقع. ما هكذا نواجه مشكلاتنا ولا هكذا ندافع عن سوريا ولا نساعد في خروجها من المحنة المصيرية. سوريا بحاجة إلى إنقاذ وليس إلى إصلاح. إن لم تكن سوريا بحاجة إلى التغيير الجذري من قبل، فهي اليوم لا تنهض إلا بالتغيير. قيامة سوريا لم تعد مرهونة لقيامة السلطة والنظام على فرض إمكانية ذلك، بل على صياغة مشروعها كدولة بعد هذه الفوضى. الحرص على سوريا وعلى جميع مكوناتها الإنسانية والاجتماعية وعلى ثقافتها الوطنية وعلى دورها الإقليمي أو في الإقليم العربي يبدأ بالبحث عن حل سياسي حواري تفاوضي يعترف بوجود الأزمة ويصدق في تشخيصها. سوريا تترنح كدولة وكيان كما حصل لغيرها ويحصل وكما يعترف المسؤولون فيها، فلا بديل عن النقاش في الحلول لا إضاعة الوقت ولا المناورة في ما تجاوزته الوقائع وتخطته الأحداث واستهلكته الصراعات ودمّره العنف.

المجتمع السوري تجاوز فكرة أن تمنحه السلطة من فوق دستوراً أو أي شكل من الديموقراطية والحريات والإصلاحات. الشعب الذي خرج مع وضد في السياسة هو أطياف وتيارات وقوى وطوائف وجماعات ومناطق ولم يفوّض لجنة أو هيئة أو مؤسسة أو فرداً لينوب عنه أو يحدد له ما يجب وما لا يجب وما هو ممكن وما هو غير ممكن. هناك شعب خرج عن حد الإلغاء والاحتواء والتعليب والتعمية ليقول ما لديه من أفكار ويعلن ما عنده من مصالح ويعبّر عن وعي وطني واقعي أو غير واقعي أو زائف أو إيديولوجي أو طائفي أو ما إلى ذلك من ألوان الاختلاف. يفاجئنا الشعب السوري في عنفه، في السلفيين والمتطرفين، في الطائفيين وفي ضعاف النفوس والتبعيين واللاوطنيين، في التكفيريين والقتّالين، لكننا ندرك أن الاستقرار والأمن القائمين على القمع والكبت والإلغاء غالباً ما يؤدي انفكاكهما إلى الفوضى وإلى التشوّهات «الأخلاقية».

هذه كلها ظواهر اجتماعية لها تاريخ ولها بيئة ولها أسباب وعليها مسؤوليات أهمها مسؤوليات السلطة الحاكمة المسيطرة. لا تعالج هذه الظواهر الطافية على سطح الحياة بالتجاهل أو بالإنكار أو بالإلغاء. المجتمع ليس حقلاً مادياً يهدم ويبنى بالقوة المادية. المجتمع ليس كائنات «سياسية» فقط أو «إيديولوجية» يرتضي توازناً دولياً أو قوة عسكرية أو خياراً استراتيجياً تحمله فكرة غامضة لانتصار لا يتضمن معنى الكرامة الوطنية والإنسانية والانسجام مع هويته الثقافية وإرضاء طموحه الاجتماعي وضمان حريته واستقراره وحضوره وفاعليته ومشاركته. ما بذله الشعب السوري في الماضي والحاضر كرهاً أو طواعية لم يعد ممكناً اختصاره في دولة ـ نظام عائلي أو طائفي أو حزبي أو فئوي بأي معنى.
مخطئ مَن يعتقد أن الحلول السياسية والحلول الوطنية أصعب من اللعبة الدولية. أو أن الفرص لهذه الحلول تلتقي مع العنف حين يبدأ.
المسألة دائماً هي البحث عن حل سياسي عن ضمانات وتطمينات، عن توازنات وعن ثقة يجب بناؤها بين أطراف مختلفين. سوريا مسؤولية عربية لم يحافظ عليها العرب لكنها لم تنجح في تقوية مناعتها الداخلية خاصة وهي تلعب على التناقضات الإقليمية والدولية، وتنتج معارضة فيها الكثير من مساوئ النظام.  

السابق
الغرافيك ديزاين: مهنة الفوضى الانقسام نقابي
التالي
هيغ: امتلاك ايران القنبلة الذرية يثير سباق تسلح نووي في الشرق الاوسط