نحاس بين الواقعية والاستشهاد السياسي!

عندما قرر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تعليق جلسات مجلس الوزراء، فهو فعل ذلك احتجاجاً على «عرقلة» وزراء «تكتل التغيير والإصلاح» للتعيينات الإدارية، وتحديداً في موقع رئاسة الهيئة العليا للتأديب التي كانت بمثابة شرارة الأزمة الحكومية.
عندما قرأ شركاء ميقاتي في الحكومة وخصومه خارجها، خلفيات هذه الخطوة، لم يصدقوا أن سبب إقدام رئيس الحكومة عليها يعود الى تذمره من طريقة تعامل العماد ميشال عون مع ملف التعيينات، بل ان معظم الاستنتاجات التقت على ربط تعطيل جلسات مجلس الوزراء برغبة ميقاتي في التهرب من مواجهة استحقاق تمديد عمل المحكمة الدولية وتحييد الحكومة عنه، حتى يعبر الأجواء الإقليمية اللبنانية من دون ان يلتقطه «رادار» الدولة اللبنانية.

في الحالتين، وسواء أكان تعليق جلسات مجلس الوزراء يرتبط باعتراض ميقاتي على السلوك العوني في ملف التعيينات، ام بسعيه الى تمرير موعد التمديد للمحكمة بأقل الخسائر الممكنة.. إلا ان الأكيد ان مسألة عدم توقيع وزير العمل شربل نحاس على مرسوم بدل النقل لم تكن في الواجهة، أو في صلب المواجهة، عند انفجار الأزمة الحكومية، بل إن الرئيس نبيه بري استغرب أكثر من مرة كيف ان رئيس الحكومة يفتعل مشكلة غير مقنعة ربطاً بالخلاف على تعيين رئيس الهيئة العليا للتأديب، ويتجاهل المشكلة الفعلية المتمثلة في رفض وزير العمل توقيع مرسوم صادر عن مجلس الوزراء.

لكن المفارقة التي حصلت لاحقاً، هي ان الخلاف على التعيينات والذي دفع ميقاتي الى تطيير جلسات الحكومة لم يعد قيد التداول خلال الايام الاخيرة، أو أقله تراجع الى الصفوف الخلفية، لتصبح «عقدة المرسوم» محور الأخذ والرد، ومفتاح الحل والربط، الأمر الذي جعل الوزير شربل نحاس في «عين العاصفة» مرة أخرى، حيث وجد نفسه واقفاً من جديد على مفترق طرق حاسم، من شأنه أن يحدد مصيره في المرحلة المقبلة.
حتى الآن، نجا نحاس بأعجوبة من أكثر من «قطوع» كاد يضعه خارج معادلة الحكومة، وهو الذي أصبح «رأسه» مطلوباً للعديد من الجهات والمرجعيات السياسية التي تنظر إليه باعتباره «جسماً غريباً» ينتمي الى «فلول» الماركسية والاشتراكية «المنقرضتين»، كما أنه ليس خافياً ان الرجل أصبح عبئاً كذلك على زملاء له في «تكتل التغيير والاصلاح»، لا يستسيغون ما يسمونها «نظرياته المحافظة» في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.

ومع ذلك، استطاع نحاس «التصدي والصمود»، مستفيداً من منطقة «الحظر الجوي» السياسي التي اقامها العماد عون فوق وزارة الاتصالات أولاً ثم وزارة العمل ثانياً، لحماية وزيره المشاكس من الهجمات التي يتعرض لها، بل إن «الجنرال» لم يتردد في التهديد بفرط الحكومة رداً على تلويح رئيس الجمهورية بإمكان إقالة نحاس او تغيير حقيبته إذا لم يبادر الى توقيع مرسوم بدل النقل.
وهناك من يقول على هذا الصعيد ان نحاس استطاع ان يمارس «سحره الفكري» على الرابية وان يحجز مكاناً له في الحلقة الضيقة المحيطة بعون الذي ذهب بعيداً في دعم طروحات وزير العمل في معركة تصحيح الأجور وتصويب مسار بدل النقل، برغم أن الجنرال بدا شبه وحيد في مواجهة اتفاق العمال وأصحاب العمل، والتغطية الرئاسية له من قبل رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة.
واليوم، تواجه العلاقة بين عون ونحاس تحدياً جديداً، بعدما تفتقت مساعي التسوية عن صيغة مركبة تعطي لكل من «الجنرال» ورئيس الحكومة نصف انتصار، بحيث ينال الأول مطلب قوننة بدل النقل من خلال إقرار اقتراح قانون بهذا الشأن في مجلس النواب، ويحصل الثاني على مراده لناحية صون دور مجلس الوزراء وصلاحيات رئيسه عبر إلزام وزير العمل بتوقيع المرسوم أولاً، قبل إقرار القانون، علماً أن كرته تكون قد أصابت أيضاً في لعبة البلياردو هذه، كتلة المستقبل النيابية التي حاولت أن تسحب البساط من تحت أقدام رئيس الحكومة عن طريق تقديم النائب نبيل دو فريج اقتراح قانون معجلاً مكرراً حول بدل النقل.

وإزاء صيغة «خذ وهات» المتداولة، يبدو أن نحاس وجد نفسه أمام الخيارات الآتية:
– أن يسلك طريق الواقعية هذه المرة على أساس أن مواجهة الجميع دفعة واحدة ستكون ضرباً من ضروب الانتحار السياسي، فيبادر الى توقيع مرسوم بدل النقل، وتحمل ما يرتبه عليه ذلك من كلفة شخصية، لأن مجرد التوقيع، ولو قبل دقيقة واحدة من إقرار القانون في مجلس النواب، سيعني أنه خالف موقفه المبدئي بوجوب عدم إعطاء أي شرعية لمرسوم غير شرعي أصلاً كما جاء في رأي مجلس شورى الدولة، علماً أن هناك من يدعوه الى النظر في الجانب المليء من الكوب، إذ انه لولا المعركة الشرسة التي خاضها ما كان أحد ليفكر في قوننة «بدل النقل» وهذا بحد ذاته إنجاز، بمعزل عن أيهما قبل: البيضة أم الدجاجة.. المرسوم أم القانون؟
– أن يوقع المرسوم إذا طلب منه عون ذلك، على قاعدة أنه لا يستطيع مخالفة قرار رئيس التكتل الذي ينتمي إليه، ثم يستقيل بعد ذلك انسـجاماً مع قناعاته، أو يبقى في موقعه بعدما يكون قد سجل اعتراضه عملا بقاعدة «نفذ ثم اعترض».
– أن يرفض التوقيع ويستقيل أو ينتظر رد الفعل من الآخرين.
– أن يمتنع عون عن الضغط على نحاس، ويحاول تحسين شروط التسوية بما يعفي وزير العمل من تجرع الكأس المرّة المتمثلة في التوقيع.
من نافل القول إنه في ضوء توقيع المرسوم، أو عدمه، سيكون مفيداً سؤال شربل نحاس: هل أنت ما زلت مراهناً على إمكان إحداث ثغرة في نظام ومنظومة المصالح السياسية والطائفية في لبنان أم أنك توصلت الى الاستنتاج القائل بأن هذا النظام عصي على التغيير والإصلاح، وبالتالي فان «التغيير والاصلاح» بحد ذاته بحاجة الى تغيير وإصلاح؟

السابق
السنيورة يبتزّ المفتي والمستقبل يقاطعه
التالي
مهلاً… حكام مصر